نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة رفيف رضا صيداوى، تحدثت فيه عن أسباب وعوامل المشكلات البيئية فى الدول العربية، والعوائق التى تقف أمام حل هذه المشكلات... نعرض من المقال ما يلى:شهدت سبعينيات القرن الفائت اهتماما متزايدا بالقضايا البيئية والأيكولوجية، تقاطع ذلك مع اتجاه عالمى لنشر ثقافة بيئية عززها مؤتمر الأمم المتّحدة المعنى بالبيئة البشرية (الذى انبثق عنه إعلان ستوكهولم) فى يوليو 1972، وانبثاق برنامج الأمم المتحدة للبيئة كسلطة بيئية عالمية، وما تلاه من مؤتمرات معنية بالبيئة، عززت مفهوم الإدارة الشاملة والمستدامة للقضايا البيئية، استنادا إلى البعد البيئى للتنمية المستدامة، وإلى أن ضمان الأمن والتقدم الاقتصاديين والرفاه الاجتماعى مرهون بضمان الأصول والموارد الطبيعية.
والتزاما منها بالتعهدات الدولية لحماية البيئة والحفاظ على النظم البيئية، شهدت الدول العربيّة توجهات لوضْع الأُطر التشريعية والاستراتيجية ورسم السياسات ونشر الثقافة البيئية، وتعزيز الرقابة البيئية وتطبيق القانون والتحول نحو اقتصاد أخضر، وفق نهج تشاركى وعبر بناء مؤسسى تعاون فيه القطاع العام (وزارات بيئة، مؤسسات حكومية وشبه حكومية، سلطات محلّيّة وبلديّات، مؤسّسات أكاديميّة ومجالس بحوث علمية) مع الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص والمنظمات الدولية والإقليمية، فضلا عن وسائل الإعلام الرسمى والخاص. لكن، فى المقابل، أفضى جموح نزعة الاستهلاك الرأسمالى إلى أضرار مناخية طالت كوكب الأرض بأكمله. تكفى الإشارة ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ إلى ما يتسبب به الشحن البحرى من أضرار بيئية وأيكولوجية مختلفة، ليس بسبب تعاظم حجم التجارة العالَميّة فحسب، بل بسبب السلوك النفعى والسعى إلى الربح. ففى حين أنّ أكثر من 90% من بضائع العالم تمر عن طريق البحر، تقوم آلاف السفن، وكسبا للمال والوقت، بتصريف مياهها الآسنة الزيتيّة فيه، بتجاوز صارخ للقوانين الدوليّة.
الإضرار بالبيئة، غير المعزول عن منطق الهيمنة والصراع على الموارد عموما، ألحق خسائر بالاقتصاد العالَمى قُدرت، قبل وباء كورونا، بـ 125 مليار دولار سنويّا، مع ترجيح تضاعف الرقم إلى نحو ثلاثة أضعاف فى العام 2030؛ حيث إنّ تقليل انبعاث الغازات ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ يتطلب من الرأسمالى المزيد من المعدّات والتحسينات، أى المزيد من النفقات؛ فيما هو غير مستعدّ للتخلّى عن صناعة ما، لمجرد أنها تضر بغيره. وبالتالى، لطالما سبب مبدأ الربح الخلاف بين البلدان المتقدمة نفسها حول تقاسم عبء خفض الانبعاثات، بقدر ما سبب خلافات بين هذه الدول ونظيراتها النامية.
هذا الإضرار العالَمى بالبيئة الذى تتحمّل الدولُ الصناعيّةُ المتقدّمةُ المسئولية الأكبر فيه، يعكس ازدواجية الخطاب والممارسة المواكبين لكل الدعوات والمبادرات إلى التعاون الدولى ليس فى المجالات البيئية فحسب، بل السياسية والاقتصادية أيضا، المائلة دوما إلى كفّة دول المركز الرأسمالى ومصالحه الجيوسياسية والاقتصادية التى يعيد وفقها تحديد دور البلدان النامية، بما فى ذلك البلدان العربية، فى النظام الاقتصادى العالمى الجديد.
لا بل إن الوقائع والمُعطيات تشير، فى ما يخص البيئة تحديدا، إلى مُراوحة قضاياها مكانها، على الرّغم من كلّ الجهود المبذولة، وإلى استمرار الدور الملوث للبيئة الذى تتصدره الولايات المتّحدة، ولاسيّما بعد إطلاقها ما عُرف بـ «ثورة نفط وغاز الصخر الحجريّين«، التى ستؤدّى بحسب الخبراء إلى مزيدٍ من المخاطر على التوازنات الإيكولوجيّة وحتّى الجيولوجيّة لكوكب الأرض، والدفع بـ«حروب الطاقة» فى العالم إلى مستويات جديدة.
• • •
عربيا، ارتبطت المشكلات البيئية عموما بأسباب وعوامل داخلية تتعلق، أولا، ببنيات دولها ونماذجها الاقتصادية التنموية ذات الطابع الريعى، وبفشل هذه الدول فى فكّ تبعيّتها للغرب الاستعمارى، وخضوع اقتصاداتها لمُبادلات خارجية عاجزة عن التنويع، فى ظلّ مظاهر الفساد والهدر وسوء توزيع الثروة، التى أسست لهذه الاختلالات وجعلتها بنيوية، وعاجزة عن التصدى لأى إصلاحات ومبادرات جذرية على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعيّة كافّة، بما فى ذلك المستوى البيئى. كما ارتبطت هذه المشكلات البيئية، ثانيا، بعجز هذه الدول عن نقْل التكنولوجيا واستيعابها فى مُختلف المراحل الزمنيّة السابقة، وباستمرار تخلفها عن القيام بهذا الدور، والاستمرار فى شراء هذه التكنولوجيا واستيرادها فى صيغها الجاهزة؛ فضلا عن افتقار الدول العربيّة، ثالثا، إلى الحوكمة الجيدة (بما تشمل من عناصر كالمحاسبة والفعالية والكفاءة والإنصاف والعدالة الاجتماعية... إلخ)، سواء ببُعدها السياسى العام أم البيئى حصرا الذى يُعنى بإدارة البيئة والموارد الطبيعية.
هذه الحقائق المُترافِقة مع ضُعف التعاوُن العربى على المستويَات كافّة، ولاسيّما المستويين السياسى والاقتصادى، واستمرار الصراعات العربيّة ــ العربيّة، عدا عن كونها أضرَّت بالبيئة، نراها فى الألفيّة الثالثة وقد ازدادت تعقيدا. وفى ظل مؤشرات تعكس، بغالبيتها، واقع أن المنطقة العربية ستشهد ارتفاعا فى درجات الحرارة وأنها ستعانى من آثار تغير المناخ على موارد المياه العذبة فيها طيلة القرن الحالى، وإلى أن هذه التغيرات ستكون لها تداعيات على قابلية التأثر الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وإن بدرجات متفاوتة، لا يبدو أن هناك سياسات مبنية على خطط بعيدة المدى.
• • •
إذا كان وباء كورونا قد عزز القناعة بأهمية «أنسنة» العلاقات بين الدول والشعوب والأُمم، فإنّ الحرب الأوكرانيّة ــ الروسيّة، ومفاعيلها الاقتصادية، راحت تُنبئ بمَسار نقيض للمسار التضامنى هذا، وبمُقاومة إمكانية قيام عالَم مُتعدد الأقطاب. فهذه الحرب وما أفرزته من تداعيات (العقوبات الغربيّة على روسيا، ولجوء الأخيرة إلى سلاحَى النفط والغاز) تتجه إلى الإطاحة بكل الدعوات إلى ضرورة إزالة الانبعاثات الكربونية، وتنحو إلى الإسهام فى إبطاء التحول نحو استخدام الطاقة النظيفة؛ إذ إنه من المتوقع، كخيارات لاستبدال الغاز الروسى وتأمين الطاقة، أن تكثف كبرى شركات النفط والغاز استثماراتها فى إنتاج الوقود الأحفورى، وأن يزداد استخدام محطات توليد الطاقة التى تعمل بالفحم، ريثما تنجلى الأمور ويصار من ثمة إلى مضاعفة جهود التحول إلى الطاقة النظيفة. وهذا ما يؤكد ترجيح كفة المصالح الاقتصاديّة على ما عداها، بحيث تتبخّر الأدبيّات حول الخطر المناخى ويُضحّى بها خدمةً لهذه المصالح ولمُقتضيات الصراعات الجيوسياسية.
نخلص من ذلك كله إلى المُفارَقة القائمة بين الجهود المبذولة عالَميّا منذ مطلع الألفيّة الثانية على صعيد التوازنات البيئية والحد من الخطر المناخى من جهة، والواقع العينى من جهة ثانية الذى لا يرتقى إلى مستوى هذه الجهود. وينسحب الأمر عينه على المنطقة العربيّة؛ حيث نلحظ اختلالات على صعيد مواجهة المشكلات البيئية، لا يمكن عزل أسبابها عن واقع أن اقتصاداتنا العربية تجد نفسها كلما اتجهت نحو بلورة استراتيجياتها وخططها الإنمائية، مُلزَمة بالتكيف موضوعيا مع تحولات دول المركز وبتغيير مقارباتها الاقتصادية الاستراتيجية المعبرة عن مصالحها الجيوسياسية الكلية والشاملة. فى حين أن الولايات المتحدة الأميركية لم تتوانَ عن مواصلة تغذيتها للحرب الروسيّة ــ الأوكرانيّة، على الرغم من التداعيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الخطيرة لهذه الحرب، التى بدأت تُطاول مختلف بلدان العالم، والتى يبدو أنها قد تفوق بخطورتها تداعيات جائحة كورونا بأشواط. وما تركيزنا على الولايات المتحدة أكثر من غيرها من بلدان العالم فى ما يخص مسئوليتها عن الإضرار بالبيئة، إلا لكون استهلاكها يشكل ربع إنتاج العالم من الطاقة الأحفورية، الأمر الذى يجعلها من أكثر الدول تلويثا للمناخ، ويواكِب نزعتَى الهيْمنة والقوة اللتين تستأثر بهما فى السياسة، بوصفها القوة الأولى فى العالم، لا بل سيدة هذا العالم.
لقد بينت الحرب الأوكرانيّة ــ الروسية بما لا يدع مكانا للشك أن العولمة الثقافيّة والتكنولوجية والاقتصادية كثفت الروابط والعلاقات بين الدول والشعوب، لكنّها لم تكبح نزعات السيطرة والهيمنة. فهل تمثّل أهداف الأُمم المتحدة فى التنمية المستدامة وفى الكفاح ضد الأخطار البيئية أو المناخية بعضا من هذه الحلول؟ وهل إن التحديات البيئية توفر فرصا حقيقية للتعاون كونها تتجاوز الحدود السياسيّة وتتخطّاها؟
النص الأصلى: https://bit.ly/3Vix0mV