عن الحروب والديون والعملة «الصعبة» (5) - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الحروب والديون والعملة «الصعبة» (5)

نشر فى : الأربعاء 27 ديسمبر 2023 - 7:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 ديسمبر 2023 - 7:00 م

مع اقتراب نهاية هذا العام، وبعد صراع اقترب من عامين مع معدلات تضخم غير مسبوقة فى ارتفاعها منذ أربعين عاما، هناك بوادر يحتفى بها البعض، استحقاقا أو استعجالا، بنصر مؤزر لسياسات البنك الفيدرالى التى انتهجها بارتفاعات متوالية لأسعار الفائدة، مع مؤشرات بتخفيضات لها فى عام 2024. ويأتى الاهتمام بما يحدث فى سياسات الفائدة فى الولايات المتحدة لما تحظى به عملتها «الصعبة» من مراكز مهيمنة حتى الآن كعملة احتياطى دولى بنسبة 60 فى المائة، فضلا عن كونها العملة المفضلة فى التمويل الدولى والديون والأسواق المالية وتسوية المعاملات التجارية. هذا رغم أن الولايات المتحدة لا تتجاوز 25 فى المائة من الاقتصاد العالمى، كما أنها فى الصادرات الدولية تلى الصين التى احتلت المرتبة الأولى منذ عام 2009.
نذكر أنه مع إعلان نيكسون عن عدم تحويل الدولار إلى ذهب فى عام 1971 انهار نظام «بريتون وودز» لعام 1944، وهو ما دشن ضمنا الدولار كعملة احتياطى، ارتبطت به العملات بأسعار صرف ثابتة وكان يتم تحويله تلقائيا لذهب بمقدار 35 دولارا لكل أونصة. ومنذئذ اشتعل الجدل حول نظم سعر الصرف ومدى عدالتها والبحث عن بديل، وعمليا عكفت البنوك المركزية الرئيسية على رصد حركة الدولار وقيمته ومدى استقراره وصموده أمام موجات التضخم فى بلاده وديونها المتراكمة لتأثيره فى سياساتها النقدية وتنافسيتها.
وترتبط اليوم بالدولار، وبدرجات متفاوتة، عملات دول متقدمة ونامية، فهى إن اتبعت أسعار صرف ثابتة كان ذلك بالنسبة للدولار، وإن هى تبنت أسعار صرف مرنة كان ذلك بالنسبة له أيضا؛ ربما أضيفت عملات أخرى فى سلة عملات ولكنه يظل أهمها نسبيا فى الأوزان. حتى إن لم يكن الدولار طرفا مباشرا فى المعاملات أو تسويتها مع ازدياد استخدام عملات أخرى محلية ودولية عبر الحدود إلا أنه ما زال يستند إليه كعملة معبرية تقاس بالنسبة لها قيم أسعار صرف العملات الأخرى.
وما يبرر هذا الدور للدولار كعملة صعبة، وما يصاحبه من امتيازات سخية وفياضة على الاقتصاد الأمريكى، ألخصه فى ثلاثة مقتطفات فصلتها فى المقالات السابقة فى هذه السلسلة: الأولى ما أشار إليه رئيس البرازيل لولا دا سيلفا من «ظاهرة الاعتياد» والخشية من التغيير، الثانية ما ورد على لسان وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين من أن «هناك أسبابا جيدة لاستخدام الدولار بتوسع فى التجارة، فلدينا أسواق مالية عميقة وذات سيولة ومنفتحة وتحكم بالقانون وأدوات مالية طويلة الأجل»، والثالثة ما ذكره الاقتصادى صاحب الكتاب العمدة عن مستقبل النقود إيسوار براساد عن أهمية الأداء النسبى للعملة الأمريكية فى استمرار دورها الدولى مقارنة بالبدائل من عملات تقليدية أو ناشئة أو مبتكرة؛ هذا على الرغم مما وقع فيه الاقتصاد الأمريكى من محظورات تمس مصداقية العملة من ارتفاعات غير مسبوقة للتضخم وزيادة مخاطر الاستدانة. هذا فضلا عن استخدام الدولار أداة من أدوات الصراع الدولى كما رأينا فى حالات تعامل الولايات المتحدة مع روسيا وأفغانستان وإيران فيما أطلق عليه «الدولار المسلح».
للتعرف على مستقبل الدولار عملة دولية عاد البعض للتاريخ القديم للدراخما الإغريقية فى القرن الخامس قبل الميلاد أو بعدها للدينارى الرومانى والسوليدوس البيزنطى أو دينار العالم الإسلامى فى العصور الوسطى، متزامنة معه العملات الذهبية مثل الدوكات الفينيسى والفلورين الفلورنسى. لكن ظهور عملة الاحتياطى الصعبة بتوافق على قبولها كان بصعود الدولار الإسبانى الفضى بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر مع تنامى دور إسبانيا الاستعمارى فى الأمريكتين. ثم يأتى التاريخ الحديث والمعاصر بتذكرة بالاحتمال المستمر للتغيير، وبحكم أننا فى عالم شديد التغير قد لا يستغرق الأمر قرونا كما كان من التحول من الجيلدر الهولندى الذى استفاد من توسع هولندا الإمبريالى وانتصاراتها الحربية فى القرنين السابع عشر والثامن عشر، واستند إلى قاعدة الفضة، وقام بنك أمستردام بمحاولات كتلك التى تقوم بها السلطات النقدية المعاصرة للعمل على استقرار قيمة وحداته.
ثم حل الجنيه الإسترلينى محل الجيلدر، الذى اعتمد قاعدة الذهب، وتفوق على العملات المنافسة استنادا إلى التوسعات الحربية الاستعمارية لبريطانيا وزيادة صادراتها السلعية، حتى صارت 60 فى المائة من التجارة الدولية تتعامل بالجنيه الإسترلينى. وجاءت الحربان العالمية الأولى والثانية بخسائرهما الاقتصادية على بريطانيا بديون جسيمة، رغم أنها كانت من الحلفاء المنتصرين سياسيا وعسكريا. استمر الإسترلينى دوليا بحكم الاعتياد وعدم إدراك حقيقة تدهور الأوضاع وما تأخذه الترتيبات الدولية من زمن لقبول المقبل الجديد والتخلى عما ألفته رغم ما به من عوار متفاقم. ولكن عندما صيغت اتفاقية «بريتون وودز» فى يوليو من عام 1944 المنشئة للترتيبات المالية والدولية الجديدة لم تعتمد الإسترلينى عملة لها، رغم أنه كان عملة الاحتياطى الدولى المهيمنة واستمر هكذا بنسبة 55 فى المائة حتى جاءت «لحظة السويس» عام 1956.
وتحمل المقتطفات الثلاثة المذكورة، للرئيس لولا والوزيرة يلين والاقتصادى براساد، فى طياتها وتبعاتها، احتمالات التغيير بتغير المعطيات، على أن تأتى بدائل الدولار مساندة بأداء اقتصادى معتبر وأسواق مالية منفتحة متنوعة الأدوات مدعومة بمصداقية للنظام القانونى والحوكمة، ثم سيعتاد المتعاملون من مؤسسات ومستثمرين وتجار وعموم الناس على البديل العملى. وعلى البدائل أن تستفيد من دروس صعود وانحسار العملات دولية الاستخدام وارتباطها بصعود وهبوط أو سقوط الأمم والإمبراطوريات المصدرة لها. وفى مقال قادم سنناقش أسس إدارة الاحتياطى الدولى من النقد الأجنبى ومدى استمرار اعتماده على الدولار وجدواه؛ وكذلك ما أطلقت عليه فضل استهداف التضخم على استهداف سعر الصرف فى السياسة النقدية. فى عالم شديد التغير لا يمكن الاعتماد على عملة دولة أخرى قد تفقد خصائص الثقة والاستقرار كأساس للإدارة الاقتصادية عموما وكـ«مرسى» للسياسة النقدية خصوصا.

التعليقات