فى الأسابيع الأولى من التحاقى بكلية الإعلام جامعة القاهرة فى خريف ١٩٨٢ عرفت ياسر رزق رحمه الله، وظلت صداقتنا ممتدة وراسخة حتى وفاته يوم الأربعاء الماضى.
كلية الإعلام كانت تشغل الدور الرابع والأخير من مبنى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وفيها تعرفنا على الدكتور عمرو الشوبكى، الذى أقنعنا بالانضمام لنادى الفكر الناصرى مع مجموعة من زملاء الكلية منهم إبراهيم عيسى وطلعت إسماعيل ومحمد الغيطى وأسامة خليل وطلاب من كليات أخرى.
وخضنا سويا انتخابات اتحاد الطلاب فى الكلية ضد جماعة الإخوان، التى كانت فى عز صعودها بالجامعة، لأن نطام مبارك تركها تنشط عمليا وحظرها نظريا.
فى هذه الأيام فإن معظمنا كنا «أريافجية»، سواء من بحرى أو الصعيد. ونقيم فى المدينة الجامعية فى بين السرايات.
ياسر ومن السنة الأولى كان متميزا يقرأ كثيرا، ثم بدأ يتدرب فى قسم الحوادث بجريدة «الأخبار»، ووالده فتحى رزق كان مديرا لمكتب الجريدة فى الإسماعيلية، وقبلها كان المراسل الحربى للجريدة، وغطى حرب أكتوبر، كما أن والدته ــ شفاها الله ــ ساهمت فى علاج وتمريض جرحى الحرب، وشقيقه الأصغر خالد هو الآن مدير مكتب الأخبار فى الإسماعيلية.
والد ياسر كان لديه شقة فى امتداد شارع عباس العقاد بحى الزهور بجوار الحديقة الدولية، اشتراها بـ ١٦ ألف جنيه بالتقسيط من هيئة تعاونيات البناء، وكنا نعتبرها «فى آخر بلاد المسلمين»، وتواجهها صحراء جرداء صارت الآن شركة إنبى.
تخرجنا فى الكلية عام ١٩٨٦وحينما انتهينا من أداء الخدمة العسكرية، أصر ياسر على أن نعيش معه بعد وفاة والده، وتلك كانت البداية الفعلية لتأسيس «شلة مدينة نصر» التى نسجت علاقة أخوة وصداقة نادرة ومستمرة حتى الآن.
الذين أقاموا فى الشقة بصفة دائمة أو «المستوطنون» حسب تعبيرى، هم العبد لله ومحمد على خير قبل أن يسافر للعمل فى جريدة «الرياض السعودية»، ثم حاتم محمود المدير الفنى لجريدة «الأخبار»، ومحمد رضوان مدير تحرير «المصرى اليوم» السابق، وإيهاب الجنيدى مدير الإعلانات فى «الأخبار»، وإبراهيم منصور رئيس التحرير التنفيذى لجريدة «التحرير» السابق، وكان يصغرنا بعامين، إضافة لأصدقاء كانوا يترددون بصورة غير منتظمة منهم أحمد عبد الرازق أحد نجوم إذاعة الـ«bbc» بلندن الآن، والإعلامى المعروف طارق الشامى مدير مكتب قناة «الحرة» السابق، والدكتور أحمد محمود المبدع الكبير فى عالم الإخراج الصحفى والفنانان أيمن الشيوى وأحمد عبدالحميد.
طريقة ياسر فى العمل خلال هذه السنوات الأولى، هى التى استمرت معه طوال حياته تقريبا، كان يذهب للعمل متأخرا بصورة تزعج العاملين معه، لكنه يظل ساهرا فى الجريدة حتى نهاية الطبعة الثالثة فى الثانية فجرا أحيانا.
عمل ياسر محررا عسكريا لفترة طويلة، ومن يعرفه جيدا سيدرك أنه كان محبا للقوات المسلحة ومتماهيا معها ومدافعا عنها طوال الوقت، وبعدها صار مراسلا فى رئاسة الجمهورية.
يختلف البعض أو يتفق مع ياسر فى آرائه وأفكاره، لكن أظن أن كل صحفى محترف يعرف أن ياسر كان مهنيا من طراز رفيع أو
«أسطى» بلغة الصنايعية وهو التعبير الذى كان يستخدمه دائما مع العديد من زملائه.
حينما تولى رئاسة تحرير مجلة «الإذاعة والتليفزيون»، وقفز بتوزيعها لأرقام غير مسبوقة، وكذلك فعل مع «الأخبار» حينما تولاها فى الأيام الأخيرة من حكم حسنى مبارك، ثم ذهب لرئاسة تحرير «المصرى اليوم»، وحاربه الإخوان بلا هوداة، وبعد سقوطهم عاد مرة أخرى لرئاسة تحرير الأخبار ومجلس إدارة
«أخبار اليوم» قبل أن يخرج من المنصب فى ٢٠٢٠.
ياسر الذى عرفته من عام ١٩٨٢ وحتى وفاته هو إسماعلاوى لعائلة أصولها سوهاجية، يشجع الزمالك بحرارة وكذلك الإسماعيلى، كريم جدا، ومتسامح، حتى مع الذين يمكن أن يسيئوا إليه، الشر ليس فى طبعه، مثالى إلى حد كبير، وربما هذه الصفة كانت أحد عيوبه أيضا، بمعنى أنه فى بعض الأحيان لا يكون واقعيا، خصوصا أنه كان أيضا عاطفيا جدا.
كان مؤيدا للدولة باقتناع، ولا يتصور نفسه بعيدا عنها.
هو نظيف اليد رغم أنه كان يمكنه تحقيق الثراء الفاحش، وقبل شهور أقسم لى وللصديق محمد على خير أنه مديون بمبالغ كبيرة منذ إجراء عملية إزالة ورم الرئة، وبناء منزل الأسرة على قطعة أرض حصل عليها من مشروعات نقابة الصحفيين.
لكن الصفة الأهم عند ياسر هى أنه إنسان نقى ينهك نفسه فى العمل على حساب بيته وأهله وصحته. وربما كانت الصفة الأخيرة هى السبب الرئيسى فى رحيله المبكر.
يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته.