«البُردة» تاج المدائح النبوية - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 14 سبتمبر 2025 1:43 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. من البديل الأنسب لـ ريبيرو في النادي الأهلي؟

«البُردة» تاج المدائح النبوية

نشر فى : السبت 13 سبتمبر 2025 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 13 سبتمبر 2025 - 7:35 م

(1)
كانت «أمسية البُردة» للإمام شرف الدين أبى عبدالله البوصيرى «فى مدح المصطفى» هى بداية تعرّفى على مصطلح «المديح النبوى» أو «مدح النبى»، صلى الله عليه وسلم، وقد نما شغفى بتتبّع هذا الفن ومطالعة آثاره فى الأدب العربى قديمه وحديثه على السواء؛ خصوصًا مع تواتر القصائد واحتذائها لقصيدة البوصيرى ومعارضتها منذ زمنه وصولًا إلى أحمد شوقى فى مطالع القرن العشرين، الذى عارضها بقصيدته «نهج البُردة»، وقد نالت من الشهرة والذيوع والقبول ما يمكن أن نتحدّث عنه حديثًا مستفيضًا فى مقالات أخرى.


(2)
«المدح أو المديح أو المدحة»، فى العموم، وكما عرّفه أساتذة الأدب العربى، هو فن الثناء والإكبار والاحترام، قام بين فنون الأدب العربى مقام السجل الشعرى لجوانب من حياتنا التاريخية، إذ رسم نواحى عديدة من أعمال الملوك، وسياسة الوزراء، وشجاعة القوّاد، وثقافة العلماء.. إلخ، ممّا يُمتدَح به أصحاب العزائم والمناقب والخصال الكريمة والأفعال الشريفة والأخلاق العالية. و«المديح النبوى» فرع من «المديح الدينى» عمومًا؛ فهناك قصائد تمجّد الخالق جلّ علاه، وأخرى تسرد مناقب الأنبياء وطرفًا من قصصهم، وتُبرز مكامن العظمة والسمو فى سيرهم.. لكن أغلب ما وصلنا من إبداع فى هذه الدائرة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمديح النبوى. وقد كانت القصائد والمطوّلات من الوفرة والجودة بالدرجة التى أفرد لها باحثون ومتخصّصون الكتب الكاملة لجمعها وإحصائها أوّلًا، وتصنيفها وترتيبها بحسب أغراضها وبنائها الفنى ثانيًا، ثم تحليل نماذج منها والوقوف على «جمالياتها»، وما نتج عنها من روافد تشكيلية ولغوية وجمالية خاصة عُرفت فى العصور المتأخرة بالبديعيات. وسأتجاوز الاستقصاء التاريخى والتتبّع الزمنى منذ ظهور بدايات القول فى مدح الرسول، صلى الله عليه وسلم، على يد الشعراء من الصحابة الكرام، لأصل إلى القرن السابع الهجرى وأقف أمام أشهر قصيدة فى مدح الرسول الكريم، وهى «البُردة» للبوصيرى، التى حفظتها الأجيال وصانتها القلوب وردّدتها الألسن بالمحبّة والعشق للنبى محمد، صلى الله عليه وسلم.


(3)
لم تكن «البُردة» القصيدة الوحيدة التى كتبها البوصيرى فى مدح النبى، صلى الله عليه وسلم، بل وضع عددًا من القصائد فى مدح الرسول الكريم، وأطال فى بعضها حتى بلغ فى «همزيته» ما يزيد على 400 بيت، بسط فيها حياة النبى وفضائله ومزاياه ومعجزاته ومولده، ثم بسط النسب الشريف، وذكر خوارق الولادة، وبسط المعجزة الكبرى فى القرآن من رقيق اللفظ ورائق المعنى، وغير ذلك. أما «البُردة» فقد حفظتها الأجيال فى الأقطار الإسلامية على مر العصور، ورتّلتها فى مناسباتها الدينية، وتولّتها المطابع فى الشرق والغرب، وشرحها الشارحون منذ القرن الثامن حتى اليوم شروحًا عدة مستفيضة. وقد عُورضت مع ذلك على مدى العصور، فقلّدوا معانيها الجامعة وأبياتها الرائعة، فكانت سببًا فى ميلاد خزانة غنية فى مديح الرسول عامرة بالكتب والشروح والبديعيات، وعنها أو منها وُلدت «قصص المولد»، التى تنثر هذه المعانى الدينية، وتستعمل صورها ومفرداتها، وتتضمّن بعض أبياتها «البُردة» - بإجماع مؤرخى الأدب ونقاد الشعر- هى أهم وأشهر قصائد المديح النبوى، بل هى «تاج المدائح»، وما كانت شهرتها وذيوعها والقبول الذى يسّره الله لها فى أذهان وقلوب وأرواح المحبّين إلا دليلًا وبرهانًا على استحقاق هذه المكانة ورسوخها. فهى أوّلًا قصيدة رائعة خصبة المعانى والصور، وهى ثانيًا أَسْيَرُ قصيدة فى هذا الباب، وهى ثالثًا مصدر الوحى لكثير من القصائد التى أُنشئت بعد البوصيرى فى مدح الرسول، بحسب زكى مبارك فى كتابه، وقد خصّها بحديث مفصّل.


(4)
سبب تسميتها بالبُردة أوضحه لنا البوصيرى نفسه؛ إذ يقول إنه قد أُصيب بفالج (شلل) أقعده، فدعا الله وتشفع بالرسول، صلى الله عليه وسلم، فلما كان فى نومه رأى النبى فمسح وجهه بيده المباركة، وألقى عليه بُردته (عباءته)، فانتبه فإذا هو قد شُفى من مرضه، فنظمها وسمّاها لذلك «البُردة» تيمّنًا وتبرّكًا. ومن ثم سارت قصتها وذاعت بين العالمين، فأنشدها الناس كذلك تيمّنًا وتبرّكًا. والقصيدة تقرب من 160 بيتًا، فهى من القصائد الطوال، فيها صلوات على النبى، ووقوف الأنبياء ببابه يلتمسون الرضا ويتشفعون به، صلى الله عليه وسلم. وأغلب الظن عند زكى مبارك أن البوصيرى قد استأنس عند نظمها بميمية ابن الفارض، ويستدلّ على ذلك بتشابه المطلعين: مطلع قصيدة ابن الفارض ومطلع قصيدة البوصيرى (وتضيق المساحة عن إيرادهما كاملين). وتشتمل «البُردة» على عدة عناصر: ففى صدرها النسيب (الغزل)، ويليه التحذير من هوى النفس، ثم مدح النبى، والكلام عن مولده، ومعجزاته، ثم القرآن، والإسراء والمعراج، والجهاد، ثم التوسّل والمناجاة. وقد جمع البوصيرى فى هذه الأبيات كلّ ما قاله القدماء فى الممدوحين، فصوّر جمال خَلْقه وكرم أخلاقه فى حسن وبِشر، وشبّهه بالزهر والبدر والبحر والدهر، وصوّر هيبته وعظمته وجلاله. وتحدّث بعد ذلك عن معجزاته، كتساقط الشهب وسجود الأشجار، وسير الغمام وصُنع الحمام، وغير ذلك كثير مما تواتر ذكره فى كتب السيرة والمغازى. وتكلّم عن معجزته الكبرى، صلى الله عليه وسلم، وهى القرآن، ووصف الإسراء، وعدّد الغزوات، وختم بالرجاء والدعاء والتماس الشفاعة والمناجاة.