عبر التاريخ كله احتاجت قوى اتخاذ القرارات السياسية أن تقنع الجماهير بصواب وجهة نظرها، طمعا فى أن تسند الجماهير موقفها بالقول أو بالفعل أو حتى التعاطف. من بين أشدّ الأساليب التى استعملتها قوى سلطة اتخاذ القرار لممارسة عملية الإقناع تلك أسلوب الدعاية. ولذلك ظلّت الدعاية ملازمة للسياسة وإن بأشكال مختلفة وجرعات متباينة من أجل أن تتناغم مع النظام السياسى الذى تخدمه.
وجريا وراء ما قاله قبل الحرب العالمية الثانية الوزير الألمانى المسئول عن الدعاية النازية، غوبلز الشهير، من أن الناس سيصدقون أية كذبة دعائية إذا ما كرّرت المرة تلو المرة، اعتقدت قوى السلطات السياسية دوما بأن ممارسة الدعاية هى من أفضل وسائل إقناع الجماهير ومن أكثرها قدرة على البقاء فى أذهان الناس لمدد طويلة.
اليوم، فى وطننا العربى، يمتلئ الفضاء السياسى إلى حد الاختناق بممارسة الأقوال الدعائية بدلا من قول الحقيقة ويعيش الناس فى دوامة من التّيهان حول ما يسمعون ويقرأون. ولعلّ أكثر المواضيع تعرضا لهذه اللعبة واستعمالا بصور شيطانية الموضوع الفلسطينى.
من أكثر الدول استعمالا لهذا الأسلوب هى الولايات المتحدة الأمريكية. يوميا تصدر التصريحات من نظام حكمها، بشتّى شخصياته ومسمّياته، فلا يجد الإنسان فى هذه الأقوال إلا التناقضات التى هى من أهم مكونات أنظمة الدعاية.
يوميا يعيد ويكرر الناطقون الأمريكيون بأنهم يسعون لإيقاف حملة الإبادة المهولة فى غزة وأنهم ضد قتل المدنيين من أطفال ونساء ورجال وشيوخ غزة، ولكن، وهنا التناقض السافر، لن يتخلوا عن دعمهم التام المالى والعسكرى والسياسى للكيان الصهيونى، وبالتالى سيستمرون فى إرسال الأموال والمعدات العسكرية الهجومية المدمرة، بل سيضيفون إلى القائمة الأفتك والأكثر قدرة على تدمير كل ما يعترض استعمالها.
هذه حملة دعائية بامتياز: فهى تحتوى على مشاعر إنسانية كاذبة تجاه شعب فلسطين دون أن تقول كلمة واحدة عن اتخاذ خطوات لإيقاف المذابح فيما عدا الجملة الدعائية الكاذبة الأخرى من أن السلطات الأمريكية على اتصال مستمر بالقيادة الصهيونية.
هكذا تبرر أمريكا سكوتا عن أفعال إجرامية صهيونية، ودعما لكل ما يجعلها أكثر فاعلية، ودمارا بكلمات دعائية تظهر أمريكا كدولة مهتمة بالجوانب الإنسانية وكحقوق الأشخاص المظلومين.
وحتى بالنسبة لممرّ فيلادلفيا، فإن جعل الناس يعتقدون بأنها متوازنة بالنسبة لهذا الموضوع تقترح أن يتصدق الكيان الصهيونى بإعطاء ثلاث كيلومترات للجهة الفلسطينية، دون ذكر حتى الجهة تلك، ويبقى المحتل مستوليا على الباقى. هنا أيضا تظهر الدعاية، وليست الحقيقة، أمريكا وكأنها تتعامل مع جهتى الصراع بنفس المقياس، وبالتالى فهى دولة الحقوق والعدل والإنسانية.
ولو تمعّن الإنسان فى كل ما تصدره أمريكا من تصريحات حول دورها فى النزاعات فى السودان وسوريا والعراق واليمن والمغرب العربى وغيرها فإنه سيجد الحيلة نفسها. إنه تصريح لا يقف مع أى حق كان ولا يقترح حلولا دائمة، وإنما هو عبارة عن جمل عامة تبقى الأوضاع فى مكانها وتبقى الأزمات فى استمرارها وتدمّر الحياة فى الأرض العربية، تماما كما تريد وتبطن أمريكا ومعاونيها من دول الغرب الاستعمارى، وتماما كما يريد الكيان الصهيونى: إبقاء العرب مجزّئين وضعاف ومتصارعين ويخضعون لأمريكا التى لا تأمرهم إلا بفعل ما هو فى مصلحة الكيان الصهيونى الذى قالها المرة تلو المرة، على لسان العشرات من مسئوليها، بأن حكم هذه المنطقة سيبقى دوما ملائما للمصالح الصهيونية وهيمنتها.
يسأل الإنسان نفسه: متى سيقتنع رؤساء البلدان العربية بأن كل ما تقوله لهم أمريكا، بشأن أى موضوع كان، لن يتعدّى منطق وسلوك وممارسة الدعاية الكاذبة التى لا تفعل أكثر من تأجيل الحلول وإبقاء النار مشتعلة تحت الرّماد واستمرار التراجع العربى فى كل حقول الحياة والحضارة؟ وإلا فما تفسير أن يسند لأمريكا دور فى محاولة حلّ كل نزاع أو صراع أو خلاف مع أنها دولة لا تمارس إلا الدعاية التى تخدمها وتخدم أحبّاءها؟
لنسألهم: هل بقى شىء اسمه مؤتمر قمة رؤساء الدول العربية أو الجامعة العربية أو منظمة التعاون الإسلامى أو مجلس التعاون؟ وهل بقيت ورقة معاهدة أو اتفاق أو مشروع فيما بين الدول العربية لم تعد ممزّقة وملقيّة فى تراب النسيان والتجاهل؟ ونسأل أخيرا وماذا بقى من تكليف الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة أن تحمل رسالته القيمية الأخلاقية الكبرى المشعّة للبشرية كلها؟
نعلم أننا نعيد ونكرر نفس الأسئلة، ولكننا نأمل أن تصبح مثل ممارسة الدعاية قادرة على الدخول فى نفوس وعقول وأرواح مسئولينا إذا ما كررناها المرة تلو المرة.