فى ساعة متأخرة من مساء الأحد 27 سبتمبر عام 1970، وبعد انتهاء المؤتمر الذى دعا إليه الملوك والرؤساء العرب، خرج الرئيس جمال عبدالناصر إلى شرفة الجناح الذى شغله عدة ليالٍ فى الدور الثالث عشر فى فندق هيلتون النيل. وقف يتأمل النهر وأنوار كوبرى قصر النيل والجزيرة تتلألأ فى مياهه. ويحكى الرواة أنه التفت مبتسما متعجبا إلى السيد عبدالمجيد فريد، سكرتير عام الرئاسة، الواقف إلى جواره وقال: «أنا ازاى ماشفتش المنظر الرائع ده قبل كده؟ شايف؟ ده أنا مدفون بالحيا هناك فى مصر الجديدة!» ومع ذلك حين علم ــ فى الدقائق التالية ــ أن العقيد معمر القذافى، كى لا يزعجه برسميات الوداع، غادر إلى المطار تاركا تحياته وتهانيه للرئيس، أمر عبدالناصر باستبقاء طائرة القذافى، وذهب إلى المطار ليودعه، قائلا لهيئة مكتبه «لم تعد لى ضرورة هنا، سأنام الليلة فى بيتى».
والمتأمل للفصل الأخير فى حياة عبدالناصر يرى عددا من السمات الشخصية التى أسهمت فى تكوين ذلك الحضور الغريب للرجل ــ حضورا نراه يزداد ترسخا وازدهارا حتى صار من حقنا، وقد مرت أربعون سنة على رحيله، أن نصفه بـ«الأسطورى». ففى المشهد أعلاه نجد الرئيس كالقروى، أو كواحد من عامة شعبه، لم يتح له من قبل أن يرى النيل هكذا من علٍ، ونجده شفافا كالطفل، لا يجد حرجا فى التعبير عن جدة الخبرة وعجبه لها، ونجده كالفنان أو العاشق، مفتوحا، متأثرا بالجمال، كاشفا صدره للحظة إضاءة روحانية ــ ثم تأتى تذكرة بسيطة كان من السهل تجاهلها، فلا يتجاهلها، ونجده رجل سياسة ومضيفا يتوجه للمطار ليودع القذافى ويشكره، ونجده فى نفس اللحظة زوجا وأبا ورب أسرة، يولى ظهره لمنظر النيل الخلاب، مفضلا المبيت مع أهله.
والمشهد بطبيعة الحال متلون برومانسية يسبغها عليه موقعنا منه، فنحن نعلم ما تجهله الشخصيات المتحركة على المسرح أمامنا: نعلم أن البطل جريح، بل مصاب فى مقتل، يعيش لحظاته الأخيرة دون أن يدرى، نعلم ما آل إليه مريده، العقيد الشاب الذى تصرف تلك الليلة بمحبة وحساسية مفرطة كان أثرها أن ينام الرئيس ليلته الأخيرة فى بيته، نعلم أن اللحظة آتية، مسرعة، حين ستقف زوجته وبناته فى نافذة المبنى المجاور ليشهدن موكب جنازته على خلفية نفس هذا المنظر الذى يأسره الآن، وحين يصل جثمانه إلى منتصف كوبرى قصر النيل ستتهاوى السيدة زوجته مغشيا عليها.
وشخصية السيدة تحية كاظم، زوجة الرئيس، تضيف بعدا أساسيا لأسطورة البطل (بالرغم من ــ أو ربما بسبب ــ زهدها فى الأضواء وفى أى موقع صدارى) فغالبا ما ندرك البطل ونشعر به فى لحظاته الإنسانية من خلال امرأة (أم أو أخت أو حبيبة أو زوجة) تحبه، تجسد أعمالها وأحاسيسها مشاعر المشاهد وتوجهها. وفى هذا المشهد الأخير نلمح السيدة تحية ــ ومن خلالها زوجها ــ لمحات خاطفة حميمة مؤثرة. نراها تستقبله عند عودته من توديع بعض ضيوفه صباح الإثنين 28 فترصد أنه يستعمل المصعد بدلا من السلم كما تعود، وحين يعود مرة أخرى (أخيرة) فى العصر، بعد أن ودع آخر الضيوف، تدخل غرفته لتسأله متى يحب أن يتناولوا الغداء، وحين يجيب بأنه لا يظن أنه يستطيع ان يأكل أى شىء ويرتدى البيجامة ويرقد على الفراش تطلب الطبيب. وها هى ــ يطلب منها الطبيب إعداد كوب من العصير للرئيس ــ ها هى تذهب وتعود بكوبين: أحدهما من عصير الليمون والثانى من البرتقال. تخدمه بيدها. تحاول أن تلبى كل ما يمكن أن يطلب، أن تستحضر كل ما يمكن أن يأتى بفائدة. يتجمع الأطباء حول الرئيس فتخرج من الغرفة، ثم يجدها أحدهم تقف خلف الباب: زوجها لا يجد من اللائق أن تكون فى غرفة نومه فى وجود رجال آخرين، لذا فهى لا تدخل، لكنها لا تقوى على الابتعاد. وجودها فى الصورة مكمل للبطل، هذه الزوجة التى تحيطه وتدعمه وتبدد وحشته بالأبناء والأحفاد، التى تنتظره وترعاه وتراعيه وتحترمه وتخاف عليه. نتماهى معها فنراه بعيونها اليقظة المحبة. أجفل من تخيل لحظات دخولها الغرفة.
هذا الفصل الأخير فى حياة عبدالناصر يبدأ يوم الجمعة 18 سبتمبر، حين يغطى دخان البارود مدينة عمان، وتشتعل المعارك فى الطرقات بين قوات الجيش الأردنى ومنظمة التحرير الفلسطينية، ويستنجد ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير، بعبدالناصر ليمنع تصفية المقاومة الفلسطينية فيقطع الرئيس إجازة قصيرة فى مرسى مطروح قام بها بأمر من أطبائه، ويعود إلى القاهرة ليجسد سمات الشخصية العامة للبطل: هو من يلجأ إليه الغير فى الشدائد فيغيثهم، وهو من يضع احتياجات الغير فوق احتياجاته، وهو من يستطيع تحريك القادة وتأليف الخصوم، فحين نقرأ قائمة الحضور فى تلك القمة العربية ــ وبالذات بما نعرفه اليوم عنهم ــ نفهم ونقدر كم الدبلوماسية وقوة التأثير التى نجحت فى تفعيل البعض وتحييد البعض الآخر حتى انتهى المؤتمر إلى قراراته المرجوة. ولو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله ولانتهت المقاومة الفلسطينية فعلا فى ذلك الأيلول الأسود. نراه رئيس دولة وزعيم أمة وأخا ومضيفا، يودع ضيوفه واحدا فواحدا فى مطار القاهرة، ومرة أخرى تشى التفاصيل الصغيرة بجرحه وبالجهد الذى يبذله ليتجاوزه: العرق الذى يتصبب منه عند توديع أمير الكويت، السيارة التى يطلب أن تأتيه بدلا من أن يمشى إليها.
البطل له نفس كبيرة قوية، لكنه لا يعطيها أهمية، بل قل إن نفسه عنده هى مجمل ما يقوم به للآخرين، فيلتفت إليها فقط فى الوقت الضائع، يعطيها ما تحتاج بالكاد لكى تستمر فى البذل والعطاء. ها هو فى البيت مع الأطباء فى ساعته الأخيرة، حرب الاستنزاف دائرة والجيش يعاد بناؤه والأسطول السادس يناور فى المتوسط وهو مكتمل الهدوء، يصر على رغبته فى زيارة الجبهة فى المساء، ويحذر الأطباء من محاولة استبقائه فى الفراش فعليه أعمال كثيرة فى الأيام المقبلة. يستمع إلى موجز الأنباء فى الخامسة ويعلق: «نيكسون عامل سيرك فى نابولى»، ويطمئن طبيبه: «مافيش حاجة. أنا كويس دلوقتى».
هناك رأى يختزل إرث عبدالناصر فى النكسة ويقول إن كل ما نحن فيه من آثارها، ولا أظن أن هذا وصف دقيق لحالتنا، فنحن نعيش آثار 1967 كما شكلتها سياسات من أداروا البلاد بعد رحيل عبدالناصر. الدلائل فى سنواته الثلاث الأخيرة كانت أنه استوعب دروسا وابتعد عن سياسات يعتبرها الكثيرون سبب نكسة67. والواقع أيضا يشهد بأن زعامته لم تهتز، فنراه، للمرة الأخيرة، يلم شمل العرب، ويوحد صفوفهم، ويرشد المقاومة الفلسطينية، ويحاول التفاهم مع الولايات المتحدة وبريطانيا. وربما لو لم يرحل لأخذت هزيمة 67 حجمها كهزيمة عسكرية عانيناها ثم تخطيناها، بدلا من كارثة وجودية تحتم التحول التام فى جميع توجهاتنا. فى خطابه فى جامعة القاهرة فى 1970 قال الرئيس إنه لو كان استرداد سيناء هو المسألة لكانت سهلة، نمتثل لشروط أمريكا وإسرائيل ونتخلى عن الالتزام العربى، ولخص الاختيار المطلوب منا مستعملا تعبير هامليت الشهير: أن «نكون أو لا نكون». والأيام أثبتت صحة هذا التحليل: فقد عادت لنا سيناء (بشكل ما) ــ وبتنا اليوم فى خطر حقيقى من أن يندثر عالمنا. من يصدق الكم من ثوابتنا ومعطياتنا التى تختل اليوم أمام عيوننا، تختل وتهتز وتخفت حتى لا نكاد نراها؟ من يصدق أن موارد مصر توظف لأعدائها، والقدس يتم تغيير ملامحها، وأن النيل نفسه، الذى تلألأ فى عينيه فى ليلة رحيله، بات فى خطر. فى خطر لأن حكومات بلادنا المتتالية بذرت ذلك الرصيد من الود والمصالح المشتركة الذى بنته سياسات الزعيم والتى كانت جزءا من إرثه الذى يبدد.
أترك لغيرى أن يقيم إرث عبدالناصر فى السياسة أو فى التنمية أو غيرهما. معنية أنا بإرثه المعنوى ــ ببلورته للبطل، بتجسيده لتلك الملامح التى يصرح هو ببعضها حين يقول، وهو صادق، «رئيس الجمهورية بتاعكم ماحيلتوش حاجة»، أو حين يؤكد، وقت عدوان 1956، «أنا معاكم هنا فى القاهرة، أولادى معاكم هنا فى القاهرة، ماطلعتهمش برة»، أو التى يحكيها الغير، كعشائه المفضل من الجبن الأبيض، أو قمصانه المصنوعة فى مصر التى لم يحد عنها فى حياته، تلك الملامح «العادية» التى إذا تنصهر مع غير العادى فيه ــ رؤيته وقامته وموقعه وفاعليته وتأثيره وكاريزمته، وكلها على مستوى ملحمى ــ تصنع البطل.
الكمال لله وحده. لن تجده فى سعد زغلول أو أحمد عرابى أو محمد عبده أو أحمس أو حتى أوزير الذى أخطأ ليس مرة بل مرتين فى انسياقه وراء أخيه الخبيث واطمئنانه له. ولن تجده فى عبدالناصر. لكنك ستجد عنده إرثا تركه لنا، ولا يقدر أى نظام، أو أى إعلام، أو أية قوة عالمية أن تبدده أو تدمره: ترك لنا نفسه، محبة ضاربة فى القلوب، ووجودا راسخا فى المخيلة. أضاف لتراثنا «جمال عبدالناصر»، أضاف «الريس» بطلا جديدا فى منظومة شخصيات مصر الفذة، نستمع لسيرته، نحبه ونشفق على آلامه، ترتفع قلوبنا لنصره وتتهاوى لهزيمته، نفخر بإنجازاته ونود لو مددنا يدنا لنمسك بيده، نحزن عليه ونتعظ ونعتبر من أخطائه، نعز أهله لأجل خاطره الغالى، نقتدى به ونترحم عليه ونرفع رءوسنا ونمشى على ما نختاره نحن من طريقه.