نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا لـ «نسيب شمس» الباحث اللبنانى، حول مراكز التفكير «Think Tanks» والتعريفات التى تشير إليها وكذلك الأدوار والمهام التى تقوم بها والتى تهم الفرد والمجتمع وصانع القرار.
يبدأ «شمس» بأنه حتى وقت طويل، ظلت مسألة تعريف المؤسسات البحثية ثثير إشكاليات عدة. وعلى الرغم من أن عبارة «Think Tanks» كانت تُستخدَم فى الأصل فى الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية للإشارة إلى قاعة آمنة أو بيئة مُلائِمة يلتقى فيها خبراء الشئون الدفاعية والمخططون العسكريون لمناقشة المسائل الاستراتيجية والتكتية المرتبطة بها، فإن المصطلح نفسه ظل يستخدم منذ ذلك الحين لوصف أنواع مختلفة من المؤسسات المنخرطة فى نشاط السياسة وتحليل مرتسماتها.
ويشير الكاتب إلى أن ثمة غموض يحيط بتعريف مراكز البحث أو«Think Tanks»؛ فتعريف هذه المراكز لا يزال محل خلاف، نظرا إلى أن معظم المؤسسات والمراكز المنتمية إلى مجال البحث، لا تُعِد نفسها من الـ«Think Tanks»، وإنما تعلن عن نفسها كمنظمة غير حكومية أو منظمة غير ربحية. لذا يبقى هذا المفهوم فضفاضا، ويحتمل أكثر من تعريف، بسبب كثرة التفاصيل التى تحيط به، والأبعاد التى تكتنفه. فبحسب تعريف «Howard J Wiarda»، فإن مراكز البحث والدراسات هى عبارة عن «مراكز للبحث والتعليم، ولا تشبه الجامعات أو الكليات، كما أنها لا تُقدِم مساقات دراسية؛ بل هى مؤسسات غير ربحية، وإن كانت تملك «مُنتجا» وهو الأبحاث. هدفها الرئيسى البحث فى السياسات العامة للدولة، ولها تأثير فعال فى مناقشة تلك السياسات. كما أنها تركز اهتمامها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة العامة، والدفاع والأمن والخارجية. كما لا تحاول تقديم معرفة سطحية لتلك المسائل، بقدر مناقشتها والبحث فيها بشكل عميق، ولفت انتباه الجمهور لها.
وتُترجَم عبارة «Think Tanks» إلى اللغة العربية بصُور مختلفة؛ فثمة مَن يُترجمها إلى «مراكز التفكير»، ولكن فى الغالب يُستخدَم تعبير «مراكز الأبحاث والدراسات» للإشارة إليها. وفى زمن الحرب العالمية الثانية، استُخدِم مصطلح «Brain boxes» باللغة العامية الأمريكية للإشارة إلى «الغرف التى ناقش فيها الاستراتيجيون التخطيط الحربى».
***
يتطرق الكاتب إلى اختلاف الباحثون فى تحديد التاريخ الذى نشأت فيه مراكز البحوث والدراسات؛ فمنهم من يقول إن نشأة تلك المراكز فى صورتها الأولى، كان فى جامعات أوروبا، وتحديدا فى القرن الثانى عشر، كتقليد للجامعات الإسلامية، عشية الحروب الأوروبية المقدسة، ثم أصبحت تُعرف باسم «الكراسى العلمية» فى جامعات أوروبا فى القرن الثامن عشر، وكان أولها نشأة «كراسى الدراسات الشرقية» فى بولونيا وفى باريس.
لكن المعلومات المتوفرة فى هذا المجال تُفيد بأن أول مركز أبحاث قد ظهر فى بريطانيا فى عام 1831؛ وهو المعهد الملكى للدراسات الدفاعية، ثم الجمعية الفابية فى عام 1884، كما أُنشئت أول وقفية فى بريطانيا، اسمها وقفية «ديمورنت» فى جامعة أكسفورد، لتشجيع الدراسات الدينية. وعد الباحثون هذه الكراسى، الإرهاصات الأولى لإنشاء المراكز البحثية.
فى المقابل، ثمة مَن يرى أن مراكز الأبحاث ظاهرة حديثة نسبيا فى حقل العلاقات الدولية. وكانت بداية نشأتها فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت عبارة عن منابر للنقاش الجماعى أو لدراسة القضايا الساخنة التى تشغل المجتمع وصناع القرار. وقد ظهر أول مركز أبحاث بشكله الحديث فى الولايات المتحدة، وذلك من خلال تأسيس معهد «كارنيغى» للسلام فى عام 1910. وتلا ذلك إنشاء معهد «بروكينغز» فى عام 1910، ثم معهد «هوفر» فى عام 1918، ومؤسسة «القرن» فى عام 1919.
وفى حقبة ما بعد الحرب الباردة، توسع انتشار مراكز الأبحاث والدراسات وزاد نشاطها. وأصبح لديها نفوذ فى الدول الديمقراطية، وتأثير فى صانعى القرار وفى صياغة السياسات العامة.
الجدير بالذكر، هو أن الكثير من مراكز الأبحاث والدراسات قد تشكلت نتيجة لأحداث مهمة فى تاريخ دولة ما، أو لتغيير طرأ مثلا على النمط السياسى الداخلى والخارجى لنظام ما، أو بسبب قضايا ملحة قادت إلى البحث عن حلول أفضل، غالبا ما تتكفل بدراستها مجموعة أو فرد من ذوى الخبرة والاختصاص ومن المتابعين للقضايا العامة. واللافت هو مدى تطور هذه المراكز وانتشارها منذ عقد السبعينيات وحتى نهاية القرن الحادى والعشرين.
***
يُعَد الدَور الأساس الذى تقوم به مراكز الأبحاث، بشكل عام، مؤشرا على درجة نضج مؤسسات الحُكم والإدارة فى المجتمع، وعلى تطور الجماعة العلمية والبحثية. ومن الأدوار التى تضطلع بها مراكز الأبحاث فى الدُول المتقدمة، وبخاصة فى الولايات المتحدة:
1. إجراء الأبحاث والدراسات، وتقديم التحليلات المُعمَقة والمنهجية حول المشكلات والقضايا الساخنة التى تواجه السياسات العامة.
2. دعم صناع القرار؛ إذ أن رجل الدولة وصانع القرار بحاجة إلى مَن يبلور له الخيارات، ويوضِح له السياسات، ويفصِل له القضايا بشكل دقيق وعلمى، لذلك فإن الكثير من الحكومات والأجهزة التنفيذية فى العالم، تعتمد على أبحاث مراكز بحثية وعلى دراساتها وخبراتها. وربما عُدت تلك المراكز هيئة استشارية لتلك الجهة أو لذاك الجهاز الحكومى أو الأهلى. ولهذا الغرض، تقوم مراكز الأبحاث بـــ:
• تحديد الأجندات؛ وذلك من خلال تحديد المركز لجدول أعماله البحثية؛ ومن شأن ذلك أن يوجه الاهتمام إلى موضوعات معينة فى مجال السياسة العامة كالتعليم، والصحة وما شابه.
• اقتراح البدائل وطَرْح الخيارات، وذلك من خلال طَرْح الحلول والبدائل المتنوعة، بناء على تقييم السياسات والبرامج المُطبَقة.
• تحديد التكلفة والعائد لكل بديل، وكذلك طرح المكاسِب المُتوقَعة من كل بديل.
• تقديم الاستشارات والإرشادات لصانع القرار حول الأولويات العاجلة؛ وذلك من خلال البحوث العلمية والتطبيقية الميدانية واستطلاعات الرأى.
• تقديم التفسيرات والتوجيهات لوسائل الإعلام حول السياسات العامة، وتقديم توضيحات للجمهور تتعلق بتلك السياسات حتى يتسنى له فهمها.
• يُفترض أنه من الأدوار التى تضطلع بها مراكز الأبحاث: إشاعة روح البحث العلمى، وتوفير الفرص للراغبين فى البحث والكتابة والتأليف.
• البحث عن أولويات التنمية فى المجتمع، ولَفْت انتباه صانع القرار إليها، وإعطاء تصور لسُبل حلها. وتُسهم فى توجيه الأنظار إلى المعضلات المجتمعية، تلك التى تواجهها التنمية المحلية والدولية.
• تُستخدَم مراكز الأبحاث كأداة / أو كقناة اتصال بين صانع القرار والشعب.
• إقامة جسور من العلاقة والتواصل بين أطراف متعددة، تُمثِل فى مجملها أقطاب إدارة السياسة العامة، وتنفيذها والتعامل معها.
• متابعة أحدَث الدراسات، وترجمة منشورات ومؤلفات تصدر عن المؤسسات والمراكز البحثية فى الدول الأخرى.
***
يختتم الكاتب بأنه على الرغم من غياب الإجماع على تحديد مفهوم مراكز الأبحاث والدراسات، فإن دورها الرئيس هو إنتاج الأبحاث والدراسات فى مجالات متعددة، بما يخدم السياسات العامة للدولة، وتقديم رؤى مستقبلية تهم الفرد والمجتمع وصانعى القرار. ولم يَعُد دور مراكز الأبحاث فى المجتمعات الغربية دَورا ثانويا، وإنما بات دَورا أساسيا فى رَسْم السياسات، وفى ترشيد عملية اتخاذ القرار. وهذه الخدمات التى تم الإشارة إليها وغيرها تقوم بها مراكز التفكير الخاصة والمهتمة بقضايا السياسة بصورة عامة. لكن هناك مراكز أخرى ذات اختصاصات مختلفة «كالصحة، والنشاطات الاجتماعية، والتعليم.. إلخ»، وغيرها من المجالات المتنوعة.
النص الأصلي