هذا الوضع المفجع الذى تعيشه معظم قيادات الدول العربية القطرية بسبب تراكم وتعاظم فشلها الذريع فى شتى مناحى الحياة، وخصوصا فشلها فى المحافظة كحد أدنى على استقلال بلدانها وتحررها الوطنى وعلى تحقيق تنمية إنسانية شاملة مستمرة تحفظ للمواطن كرامته ومستوى معيشة مقبول.. هذا الوضع أصبح يطرح أمامنا بديهة لا مفر من مواجهتها بصدق وأمانة.
إنها بديهة مؤداها أن منظومة العلاقات والتراتبية الاجتماعية السابقة، والتى كانت تحظى بشبه إجماع مجتمعى حولها، سواء أكانت بنيت على أسس قبلية أو عشائرية أو طائفية، وبالتالى علاقات القرابة والزبونية، أو قبول بمنطق ذهاب غنيمة الحكم وإدارة أمور الدولة لمن نجح فى الاستيلاء على الحكم بأية طريقة فاعلة كفؤة.. أن تلك المنظومة قد تشوهت وشاخت ومرضت وأصبحت فى طريقها للموت البطىء المحتم. وفى هذه الحالة تحتاج تلك المنظومة القديمة أن تستبدل بمنظومة إجماع جديدة أحسن كفاءة وأكثر قبولا.
ذلك أن فشل وانكسار منظومة الإجماع السابق حول من يدير الدولة وكيف يديرها تطرح الآن، وبقوة، مسألة الأسس التى تقوم عليها شرعية الحكم، إذ لا يمكن لمنظومة حكم وإدارة أن تفشل فى إدارة أزمات كبرى ولا تصبح تحت المساءلة، وبالتالى مسألة مدى تمتعها بالشرعية. ذلك أن أزمة أية شرعية فى الحكم تستدعى بناء منظومة علاقات اجتماعية جديدة تعيد لها الاستقرار والقبول العام اللازمين لممارستها بكفاءة وفاعلية.
ومن المؤكد أن أية علاقات اجتماعية جديدة ومغايرة فى جوهرها للعلاقات القديمة ستفرز قوى وقيما ووسائل وسلوكيات وأهدافا جديدة. والسؤال الذى يطرح نفسه فى الحال هو:
ما طبيعة ومكونات الإجماع المجتمعى الجديد الذى يجب أن يسعى الجميع لطرحه على مجتمعات الأقطار العربية كأولوية وجودية قصوى فى الحياة السياسية العربية؟ والجواب يبدأ بالتركيز على الجوانب الثلاثة التالية كخطوات ضرورية لبناء إجماع مجتمعى جديد.
فأولا، قبول وتطبيق مبدأ الشراكة الوطنية فى الأرض والخيرات والفرص الحياتية وإدارة شئون البلاد. كل شرعية جديدة يجب أن تنطلق من هنا، من أن الوطن هو ملك الجميع دون استثناء لأى سبب كان، وأن إعطاء امتيازات لأية جماعة كانت، بسبب العرق أو الدين أو المذهب أو علاقات القربى الاجتماعية أو الأعراق وغيرها، مرفوضة لا بشكل صريح ولا بشكل مقنع. ما عاد يجوز لأحد أن يستعمل الوجاهة التاريخية أو كثرة العدد أو الثروة أو أى إسناد فئوى من أى مكون مجتمعى، قبلى أو عسكرى أو حزبى أو دينى، لتبرير المساس بتلك الشراكة الوطنية.
وثانيا يجب أن تصاغ كل أسس تلك الشراكة الوطنية فى صورة دساتير وقوانين تكون فوق كل إرادة لأية جهة أو لأى شخص. وبالطبع فإننا هنا نتكلم عن قوانين ودساتير معبرة وناتجة عن إرادة حرة يمارسها جميع المواطنين باسم الشراكة الوطنية وباسم عقد اجتماعى جديد واضح الملامح ونافذ المفعول.
وثالثا، الاتفاق على ممارسة أسس الشراكة الوطنية وسيادة القانون من خلال نظام ديمقراطى، له حدود دنيا متفق عليها وليس له سقف يمنع صعوده المستمر. ذاك النظام الديمقراطى، فى السياسة والاقتصاد والاجتماع، هو وحده الذى سيمنع حدوث فوضى وتخبُط فى اتخاذ القرارات، مثل التى سادت المشهد العربى فى السنوات الأخيرة وأدت إلى جحيم الانقسامات والصراعات والخيانات التى تهدد بعض الأقطار العربية فى وجودها، كما تهدد تماسك البنية القومية الجامعة للأمة العربية كلها.
بدون الديموقراطية المبنية على مبادئ العدل والإنصاف ستصبح الشراكة الوطنية وسيادة القانون مظهريين وكلاميين، كما هو حالهما الآن فى كل بلاد العرب.
من هنا الأهمية القصوى للدخول فى أدق تفاصيل المشروع الديمقراطى العربى المقترح وفى دهاليز من سيحمله ويناضل من أجله. ومع أن هناك كتابات كثيرة حول ذلك إلا أن وعى الموضوع اقتصر على نخبة صغيرة مهتمة. هذا لا يكفى، إذ يحتاج إلى قاعدة شعبية مدنية واسعة تحتضنه، وهذا ما يستوجب أن يناقش كموضوع عام، أمام رأى عام، فى ساحات تواصل عامة.