الخديوى إسماعيل.. السقوط فى هاوية الاستعمار! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخديوى إسماعيل.. السقوط فى هاوية الاستعمار!

نشر فى : السبت 28 نوفمبر 2020 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 28 نوفمبر 2020 - 7:35 م

فى المقال الماضى شرحت بإسهاب السياسة الداخلية للخديوى إسماعيل كما شرحت سياسته الخارجية فيما يتعلق بالتوسعات الإقليمية وسياسته تجاه الباب العالى، وفى هذا المقال أتمم محور السياسة الخارجية وخصوصا علاقته بكل من فرنسا وبريطانيا والتى انتهت إلى تقويض الإرادة المصرية تمهيدا فى النهاية نحو خضوعها للاستعمار!
كان الخديوى إسماعيل مثل جده فى عزمه على تحديث مصر على النمط الأوروبى، ولكن كان الفرق كبيرا بين الاثنين، فبينما سعى محمد على باشا إلى التحديث الأوروبى وفى الوقت نفسه الحفاظ على السيادة والاستقلال المصرى، فإن الخديوى اسماعيل فتح الباب على مصراعيه للقوى الأوروبية وتحديدا فرنسا وبريطانيا، وورط نفسه فى الاستدانة حتى الثمالة، ففقدت مصر إرادتها المستقلة ولم تصبح فى نهاية عهده سوى تابع للقوى الاستعمارية.
فى بداية عهده، كان الخديوى اسماعيل متحيزا للفرنسيين على حساب بريطانيا، فكان معجبا ومقربا للغاية من نابليون الثالث ملك فرنسا وكانت الاستدانة المصرية فى تلك الفترة من الطرف الفرنسى بالأساس، إلا أن هزيمة نابليون الثالث على يد الألمان فى بداية سبعينيات القرن التاسع عشر، مهدت الطريق لبريطانيا كى تبسط نفوذها وتسيطر على مصر كلية طوال فترة السبعينيات من هذا القرن. فمنذ افتتاح قناة السويس فى 1869، وقد أصبح النفوذ البريطانى مهيمنًا على القطر المصرى، وقد انتهزت الديون الثقيلة التى ورط فيها الخديوى اسماعيل نفسه وخاصة بعد الحفل الكبير الذى أقامه الخديوى بمناسبة افتتاح القناة لتجبر مصر على بيع أسهمها فى القناة لبريطانيا، ثم لاحقا إجبار الخديوى على تعيين بريطانى على رأس السودان واستدعاء الشركات الإنجليزية للسيطرة على الأنشطة الاقتصادية فيها، ثم لاحقا الضغط على مصر لسداد ديونها ومن ثم وأمام عجز الخديوى على الوفاء بتعهداته بتسديد الدين، فقد تم إنشاء صندوق الدين الذى سيطر على الاقتصاد المصرى وأجبر الخديوى فى النهاية على التنازل عن العرش وذلك بتنسيق ثلاثى بريطاني ــ فرنسي ــ عثماني!

***
وهنا من الضرورى التوقف قليلا أمام مشروع قناة السويس كنموذج للطريقة الماكرة التى مكنت البريطانيين والفرنسيين من الهيمنة على الشأن المصري! كانت بداية مشروع قناة السويس وعقد الامتياز الموقع بين مصر وفرنسا وبريطانيا فى عهد سعيد باشا. وكان الأخير قد أهدر بالفعل الكثير من الحقوق المصرية فى ذلك المشروع، وكانت مظاهر هذا الإهدار أربعة:

مظهر الإهدار الأول تمثل فى تعهد الحكومة المصرية بتوفير العمال اللازمين للحفر وقد قدر هذا العدد بحوالى 20 ألفا مع إلزام الحكومة المصرية بدفع تعويضات للشركة إذا ما عجزت عن توفير هذه العمالة وهو ما عطل الزراعة والصناعة بل وأثر فى الكثير فى الأحيان على عدد جنود الجيش المصرى.

أما المظهر الثانى فقد تمثل فى تمليك الشركة ترعة المياه العذبة التى كُلفت بحفرها بالإضافة إلى حقها فى تملك كل الأراضى المستصلحة والمستزرعة على جانبى الترعة المحفورة!

ثم تمثل المظهر الثالث لإهدار الحقوق المصرية فى إعطاء شركة القناة الحق المطلق فى تملك أى أراض أخرى ترى أن المشروع فى حاجة إليها ونزع ملكيتها وإعفاء الشركة من دفع أموالها لمدة عشر سنوات وهو ما مثل انتهاكا صارخا للسيادة المصرية!

وجاء مظهر الإهدار الرابع والأخير متمثلا فى إعطاء الشركة الحق فى اتباع نظام السخرة للعمالة المصرية وهو ما مثل الانتهاك الصارخ فى حق الشعب المصرى من عمال وفلاحين وجنود حيث انتهى هذا النظام إلى استعباد المصريين بأشكال شتى!

***

فى كتابه «السخرة فى حفر قناة السويس» والذى أعيد نشره عن طريق الهيئة المصرية للكتاب فى 2010 يشرح المرحوم الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى، أستاذ التاريخ بكلية اللغة العربية بالأزهر، تفاصيل عمليات السخرة هذه ويوثقها للتاريخ ببراعة، فعلى عكس كتابه الأشهر «الدولة العثمانية.. دولة مفترى عليها» وهو فى رأيى كتاب مؤدلج منحاز مليء بالمغالطات التاريخية والرؤية المنحازة التى ما كان ينبغى لها أن تصدر عن أستاذ للتاريخ، إلا أنه وفى هذا الكتاب يقدم توثيقا شديد الموضوعية بالأرقام والوثائق لأكبر عملية استعباد تعرَّض لها المصريون فى العهد الحديث!
ومن ملامح هذه السخرة مثلا استعباد الفلاحين المصريين فى عمليات الحفر فى ظروف غير إنسانية حتى تنفذ قوتهم فيتم التخلص منهم بشكل غير آدمى ومن ذلك قول أحد الفرنسيين العاملين فى المشروع عن العمال المصريين «كانت الشركة تستخدم الفلاح حتى يصبح عديم النفع فتلقى به جانبا كما يلقى الإنسان علبة ثقاب فارغة!» (ورد الاقتباس فى ص 151 من كتاب د. الشناوي).

***

كذلك فنتيجة لأعمال السخرة وظروف العمل فى أوضاع شديدة السوء فقد أصيب المصريون بالكثير من الأمراض الصدرية والرمدية وحالات الإسهال الشديد والجفاف، بالإضافة إلى أمراض الكبد وانتشار العديد من الأوبئة ومنها التيفويد والتيفوس (مشهور أيضا باسم حمى السجن) والجدرى، بالإضافة إلى الكوليرا! وقد استمرت هذه الأوبئة فى عهد الخديوى اسماعيل أيضا وحتى افتتاح القناة! ومن الجدير بالذكر، أنه حينما اضطرت شركة القناة إلى استدعاء العمال الأجانب للعمل فى القناة فإنها فرقت فى الظروف المعيشية (التغذية والمسكن والرعاية الصحية)، وكذلك فى الأجور بين العمال المصريين وبين الأجانب، فنتيجة لهذه الأمراض مثلا يرصد الدكتور الشناوى فى كتابه عدد الوفيات بين العمال المصريين والأجانب فى منطقة الشلوفة خلال الشهور الثلاث التى انتشر فيها مرض الدوسنتاريا فى شتاء 1868ــ 1869، حيث بلغت الوفيات بين العمال المصريين 449 حالة من إجمالى 6596 عاملا مصريا بنسبة 7٪ تقريبا، وفى مقابل ذلك بلغت الوفيات بين العمال الأجانب 44 وفاة من إجمالى 6128 عاملا بنسبة تزيد قليلا على نصف فى المائة!

وفى الأجور كذلك كانت التفرقة فادحة، فقد بلغ متوسط أجر العامل المصرى 57 قرشا بافتراض أنه يعمل 30 يوما شهريا وهو أمر لم يكن يحدث فى الكثير من الأحيان، ويتضح مدى الغبن حينما نعلم أن هذا الأجر لم يكن فقط مطلوبا من العامل المصرى أن يوفر طعامه منه بل وكان عليه أيضا تحمل نفقات علاجه من الأمراض وأن يشارك فى تحمل نفقات طعام مندوبى الحكومة المصرية والحرس ودوابهم! وهكذا لم يكن يتبقى لهم أى شيء لإعطائه لذويهم بعد تحمل أيضا مصاريف سفرهم الطويل من منطقة الحفر إلى قراهم ومدنهم! فى نفس الوقت كان يحصل العامل الأجنبى على أضعاف هذا الأجر بالإضافة إلى سكن آدمى ورعاية صحية!
***
الحقيقة ورغم أن الخديوى اسماعيل يظل مسئولا عن تدهور أوضاع المصريين العاملين فى القناة فى عهده، إلا أن الإنصاف يقتضى القول إنه حاول من ناحيته تحسين بعض شروط عقد الامتياز مع شركة قناة السويس ومن ذلك قوله حينما تولى سدة الحكم واطلع على التفاصيل المجحفة لعقد الامتياز «أريد أن تكون القناة لمصر، لا أن تكون مصر للقناة»! وفى إطار تلك الجهود، فقد قام الخديوى اسماعيل بمحاولة التفاوض وتحسين بعض شروط العقد ومنها:

ــ تخفيض عدد العمال الملزمة الحكومة المصرية توفيرها لعمليات الحفر من 20 ألف إلى 6 آلاف عامل فقط.
ــ تعويض شركة القناة لأصحاب الأراضى الزراعية حال انتزاعها منهم مع اشتراط موافقة الجانب المصرى.
ــ إلغاء نظام السخرة وتحسين الأحوال المعيشية وكذلك رفع الأجور بالنسبة للعمال المصريين.
وقد لجأ الخديوى اسماعيل إلى تفويض نوبار باشا للتفاوض عن الجانب المصرى كما تم اللجوء إلى نابليون الثالث فى محاولة للوساطة، إلا أن الأخير خذل الخديوى برفض المطالب بل وقد أفتى بضرورة دفع الحكومة المصرية 3,36 مليون جنيه مصرى وتم توقيع اتفاق بذلك فى 30 يناير 1866!

ورغم ذلك فلم يستسلم الخديوى الذى حاول تحسين الزراعة التى انهارت فى عهد سعيد باشا وقد نجح بالفعل فى زيادة إنتاج بعض المحاصيل الزراعية وأهمها القطن المصرى، ففى حين أن سعيد باشا كان قد صدر 596,200 قنطار للقطن إلى الخارج عام 1861، فقد ارتفعت صادرات القطن فى عهد اسماعيل إلى 1,287,000 قنطار عام 1863، ثم إلى 1,740,000 قنطار عام 1864، ثم قفز بالتصدير إلى 2,507,000 قنطار فى عام 1865!

وقد انعكس ذلك بالفعل على الفلاحين المصريين الذين تحسنت أحوالهم المعيشية للأفضل قبل أن يضغط نابليون الثالث ومن بعده بريطانيا على الخديوى ليتورط الأخير فى الديون وخاصة بعد الحفل الباذخ الذى أقامه لافتتاح قناة السويس والذى كان بداية النهاية للخديوى اسماعيل، فقد بلغت إجمالى ديون حفل الافتتاح وحده مليون و400 ألف جنيه، بالإضافة إلى ديون أخرى تمثلت فى التعويضات التى ألزمت اتفاقية 1866 الحكومة المصرية بدفعها، بالإضافة إلى اضطرار مصر لبيع حصتها فى القناة وبالإضافة أيضا إلى مصاريف السمسرة ونفقات التحكيم لتبلغ ديون مصر بعد افتتاح القناة 16,8 مليون جنيه مصرى، بل وقد قفزت هذه الديون عام 1879 إلى ما يقرب من 100 مليون جنيه مصرى فى حين أن الميزانية المصرية لم تتجاوز 9 ملايين جنيه مما ساعد بريطانيا وبموافقة باريس والباب العالى على إنشاء صندوق الدين المشار إليه أعلاه ثم إصدار الباب العالى وبإيعاز من فرنسا وبريطانيا فرمانا بعزل الخديوى اسماعيل وتعيين ابنه توفيق باشا بدلا منه فغادر اسماعيل مصر إلى إيطاليا ثم مكث ببعض العواصم الأوروبية واستقر به الحال فى الأستانة عام 1888 قبل أن توافيه المنية فى 1895 ليتم دفنه فى القاهرة!

أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر