الاستبداد التنموى - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاستبداد التنموى

نشر فى : الأحد 29 مارس 2015 - 9:50 ص | آخر تحديث : الأحد 29 مارس 2015 - 9:50 ص

هل حقا الديمقراطية هى الطريق الوحيد نحو تحقيق تنمية اقتصادية ورفاهية مجتمعية؟ ألا توجد دول ذات نظم سياسية شمولية استبدادية تمكنت من تحقيق تنمية اقتصادية وحسنت من الأحوال المعيشية لمواطنيها؟ دعونا نتحدث بصراحة فكثير من النخب المصرية بدأ هامسا ثم انتهى مصرحا بأن مصر تحتاج إلى الاستبداد الحتمى كى تتمكن من تحقيق الاستقرار والتنمية الاقتصادية، ولا شك لدى أن كثيرين من نساء ورجال النظام الحالى يشاركون النخب هذا الرأى ويعتقدون أن الاستبداد هو طريق التنمية وانقاذ البلاد من الفوضى! تسمعهم دوما يقرعون الشعب ويعتبرونه المشكلة التى لا حل معها سوى العصا.

•••

تسعى السطور القليلة القادمة إلى عرض وجهات نظر علماء السياسة المبنية على دراسات إمبريقية بعيدا عن الآراء والأمانى والتوجهات. بشكل عام، هناك مدرستان كبيرتان فى العلوم السياسية تحاولان الإجابة عن هذا السؤال:

المدرسة الأولى تعتقد أن قصر المعانى الإيجابية من تنمية واستقرار ورفاهية على النظم الديموقراطية محض خيال وانحيازات أكاديمية وأن الحقيقة أكثر تعقيدا، فصحيح أن هناك نظما ديموقراطية تتمتع بمستويات معيشية عالية، لكن هناك نظما شمولية أيضا تمكنت من تحقيق التقدم والازدهار، فدول مثل الصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية، حتى الثمانينيات، والاتحاد السوفييتى ووريثه الروسى تمكنت من تحقيق تقدم على المقاييس الاقتصادية العالمية. وهى جميعا دول تتراوح بين أن تكون شمولية أو أقل ديموقراطية. يرى منظرو هذه المدرسة أن الفرضية الرئيسية القائلة بأن النظم الديموقراطية تتمتع بسيادة القانون الذى يحمى حقوق الملكية بأنواعها المختلفة، يقود إلى زيادة مساحة الثقة فى النظام ومن ثم زيادة الاستثمارات وتحقيق التنمية الاقتصادية هى فرضية غير دقيقة ولاتصمد بالضرورة أمام القياسات العملية على أرض الواقع!

ففى دراسة أجراها بارو Barro فى العام ٢٠٠٠ وقام فيها بمراجعة العلاقة بين الدول التى تتمتع بقدر من الديموقراطية ممثلا فى ووجود حقوق انتخابية لدى المواطنين، حيث الدرجة ١٠٠ هى أعلى درجات الحقوق الانتخابية وصفر هو الحد الأدنى، وبين وجود نظام قضائى يوفر سيادة القانون، حيث الدرجة ١٠٠ هى أعلى درجات سيادة القانون وصفر هى أدنى درجاته، وبمراجعة ١٠٠ دولة، وفقا لهذين المعيارين فى الفترة بين عامى ١٩٦٥و ١٩٩٥ وجد بارو أن العلاقة بين الحقوق الانتخابية وسيادة القانون ليست دائما علاقة موجبة، فعلى سبيل المثال فإن دول مثل البحرين، الصين، مصر، إيران، الكويت، ماليزيا حققت معدلات متدنية فى مقياس الحقوق الانتخابية حيث حققت درجات (صفر، صفر، ١٧، ١٧، ٣٣، ٣٣) من ١٠٠ درجة على الترتيب، وعلى الرغم من ذلك فقد حققت معدلات بين متوسطة ومرتفعة فى مقياس سيادة القانون، فقد حققت مصر معدل (٦٧ من ١٠٠)، بينما حققت باقى الدول المذكورة أعلاه جميعا معدل (٨٣ من ١٠٠) وهو ما يعنى أن العلاقة فى هذه الدول انتفت بين المعيارين، فبينما حققت جميعا معدلات متدنية فى مقياس الانتخابات، إلا أنها حققت معدلات بين متوسطة ومرتفعة فى معدلات سيادة القانون. وعلى العكس ففى نفس الدراسة فإن دول قبرص، الدومينيكان، اليونان، جنوب أفريقيا، وأورجواى حققت العلامة الكاملة فى مقياس حق الانتخاب الممنوح للمواطن. ورغم ذلك فقد حققوا درجات متدنية فى مقياس سيادة القانون، حيث حققت قبرص ٣٣ درجة فقط من ١٠٠ بينما لم تتخط الدول الأربع المتبقية حاجز الـ٥٠ درجة. وهو ما يعد تأكيد على وجهة نظر هذه المدرسة فى عدم وجود ارتباط شرطى بين الديمقراطية وسيادة القانون ومن ثم جلب الاستثمارت والتنمية. بل إن بعض منظرى هذه المدرسة يدعون أن الدول الديكتاتورية يتمتع فيها الحكام باستقلالية أكبر عن المصالح الخاصة التى تحاول التأثير على قرارتهم. ومن ثم فهم يتمتعون بقدرة أكبر على اتخاذ القرارت التنموية وتلك المتعلقة بإعادة توزيع الموارد، ومن هنا يخلص كل من Przeworski and Limongi فى دراسة أعداها فى عام ١٩٩٣ أنه ليس ثمة علاقة بين كون النظام ديموقراطيا أو شموليا وبين قدرته على التنمية الاقتصادية!

•••

على العكس من المدرسة الأولى، فإن عددا كبيرا من علماء السياسة وباستخدام نفس الأساليب الإمبريقية يفندون حجج المدرسة الأولى على النحو التالى:

أولا: ترفض هذه المدرسة الفرضية القائلة باستقلال الديكتاتور عن جماعات المصالح، وترى أن جماعات المصالح والضغط توجد فى كل المجتمعات، والفرق أنها فى المجتمعات الديموقراطية تكون متعددة لديها مساحات واسعة من المناورة للضغط على اللاعبين السياسيين، ولما كان الأخيرون متغيرين باستمرار فى النظم الديموقراطية فإن توازنا طبيعيا ينشأ بين صناع القرار وبين هذه الجماعات، بما يمنع سيطرة جماعة مصلحة معينة باستمرار. بينما فى الدول الديكتاتورية لا يكون لدى هذه الجماعات المتعددة نفس مساحات المناورة ويتم لفظها من اللعبة السياسية، مع تفضيل شبكة مصالح. ومن هنا تحدث هيمنة لنمط معين من المصالح مدعوما بشبكة ضيقة من المستفيدين، الأمر الذى ينتفى مع إدعاء استقلال الحاكم الفرد عن الضغوط.

ثانيا: فى دراسة إمبريقية عرضها Micheal Theis فى ٢٠١١ وأجريت على ٨٨ دولة بين عامى ١٩٦٠و ١٩٩٠ لقياس العلاقة بين الديمقراطية أو الشمولية والأحوال المعيشية للمواطنين، حيث تم إعطاء نظام الدولة درجة تتراوح بين ١٠، ديمقراطية كاملة، وبين سالب ١٠، شمولية تامة. تم قياس هذه الأحوال المعيشية بستة مؤشرات (متوسط نصيب الفرد من الثروة، عدد الوفيات بين الأطفال أقل من خمس سنوات، حصول السيدات الحوامل على رعاية طبية، الوضع فى وجود طبيب متخصص، حصول الأطفال على تطعيمات، متوسط عمر الفرد) مع إعطاء كل دولة درجة تترواح بين صفر و١٠٠ حسب أدائها فى كل مؤشر على حدة، فقد أظهرت الدراسة أن كل الدول التى تخطت حاجز ال ٥ من ١٠ على مقياس الديموقراطية (أى دول أكثر ديموقراطية) حققت معدلات مرتفعة فى المؤشرات السابقة جميعا، بينما الدول التى حصلت على درجة ديموقراطية تتراوح بين الخمسة وسالب ١٠ (أى تميل إلى الاستبداد) فقد انقسمت بين دول حققت معدلات عالية وأخرى حققت معدلات منخفضة للغاية فى هذه المؤشرات، وهو ما جعل الدراسة تخلص أن فرص الدول الأكثر ديموقراطية مضمونة تماما فى تحقيق معدلات معيشية مرتفعة لمواطنيها، بينما فرص الدول الأكثر شمولية فى تحقيق نفس المعدلات تنخفض بمقدار النصف عن نظيراتها الديموقراطية!

ثالثا: ترى هذه المدرسة أخيرا، ولتفسير النتيجة السابقة، أن المدرسة الأولى تقع دائما فى هذا الخلط المعتاد بين مفهومى النمو والتنمية، فمعظم الدول الشمولية التى يحتج بها كنموذج لجذب الاستثمارات تحقق معدلات نمو عالية محسوبة بإجمالى الناتج القومى الإجمالى وهو مجرد نمو رقمى تجميعى يعتمد على قياسات مضللة، مثل متوسط دخل الفرد الذى هو مجرد ناتج قسمة الدخل القومى على عدد السكان، وهنا تكمن الخدعة، فهذه الأرقام التجميعية لا تعكس حقيقة التوزيع. بمعنى كيف تتوزع هذه الأرقام الكلية على الطبقات المختلفة وكيف تنعكس على مستويات المواطنيين العاديين اجتماعيا وصحيا وتعليميا وبيئيا وهو ما يدفعنا للحديث عن مفهوم التنمية وهى التى فى واقع الأمر أعم من النمو لأنها لا تتوقف فقط عند الأرقام الكلية لكنها تعتمد أيضا على طريقة التوزيع وكفاءة استغلال الموارد. وهو ما ينعكس فى مؤشرات أكثر تعبيرا عن حال المواطنين، مثل التنمية البشرية والإنسانية والتنمية المستدامة لتعالج قضايا حالة مثل البطالة والأمية..إلخ، بدلا من التوقف عند الأرقام الكلية المضللة التى قد تتمكن بعض الدول الشمولية من تحقيقها، مع سيطرة طبقات محدودة على مكاسبها وحرمان باقى طبقات الشعب منها.

•••

ماذا نخلص من هذه الدراسات إذن؟ نستطيع أن نخلص من هذه الدراسات العلمية بأن الاستبداد قد يتمكن بالفعل من الإبهار والاستعراض بالأرقام الكلية التجميعية والمشاريع العملاقة بل والمنافسة الدولية، لكنه يعوز دوما عدالة التوزيع والشفافية وحسن الاستثمار فى البشر والموارد والبيئة المحيطة وهو ما تتمكن النظم الديمقراطية عادة من تحقيقه، فأى نموذج سنختار فى مصر؟ هل ننبهر بالأرقام المبهرة أم نشغل أنفسنا بعدالة التوزيع والتحسن الفعلى فى حياة المواطنين؟

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر