نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب غسان مراد، تناول فيه كيف أثرت التغيرات الرقمية فى عالم الإذاعة حتى اليوم... نعرض من المقال ما يلى:الأبحاث التى تُعالج التغيرات التى تحصل فى مجال الإعلام جرّاء ثورة التقنيّات المُتغازِرة، نادرا ما تتطرق إلى مجال الإذاعة، ولكن من البديهى أنّ الثورة فى المُمارسات الإعلامية التى أرساها الإنترنت غيّرت كل شىء، ومن الطبيعى أنّها تُغيِّر فى الإذاعة أيضا.
هذا ما نحاول طرحه فى هذه النصّ بعدما أصبحنا فى حقبة «الويب راديو» الذى يسمح بالوصول إلى آلاف الإذاعات العالَميّة، فهل تؤثِّر هذه التغيُّرات فى طُرق الاستماع إلى الإذاعة؟ وهل وصلنا إلى المعلومات الإذاعيّة الكونيّة؟
الراديو يشهد ثورة حقيقيّة. حالة تذهب إلى حدّ تعديل جوهرها، أى الصوت، فقد وَصلت الصورة وسَيطرت الكاميرات على الاستوديوهات. لم تعُد المحطّات تتردَّد اليوم فى تصوير برامجها الرئيسة للبثّ المباشر أو المسجَّل.
كما نعلم، بدأ العالَم يحتفل باليوم العالَمى للإذاعة منذ 11 عاما. عام 2022، كان شعار الاحتفالية «الإذاعة والثقة». أمّا هذا العام 2023، فإنّ الشعار هو «الإذاعة والسلام». عدم الثقة ازداد فى السنوات العشرين الأخيرة بعد انتشار شبكات التواصُل عالَميّا، إضافة إلى أنّ كلّ مَن استطاع كتابة خبر أو نشْر خبر صوتى بحسب تقنيّات بودكاست (podcasting)، اعتقد أنّه أصبح مذيعا، كما هو الحال مع باقى وسائل النشر المُباحة، التى ساعدت فى تفشّى الأخبار الزائفة الآتية من التغيُّرات فى سلوكية الأفراد الذين يصدّقون هذه الأخبار، لكونها تحمل فى محتواها نَوعا من الإثارة عند المتلقّى، الذى كان من المُفترَض به أن يكون مُحترسا أكثر.
• • •
تاريخيّا، أوّل مَن استفاد من تطورات الرقمنة كان الراديو، وذلك بعد اختراع الترانزيستور الذى أدّى إلى أن يُصبح الراديو وسيطا متحرِّكا. وبعد ذلك، تطوّر فى الثمانينيّات من القرن الماضى إلى الراديو الرقمى الأرضى مع استخدام الهيرتز (Hertz) وفى أواخر العام 1990، بدأ البعض تجربةَ الإذاعة بالوسائط المتدفّقة على الإنترنت (streaming) وكلّما زادت قدرة التبادُل على الشبكة، زادت قوة البث الإذاعى.
من الناحية التقنيّة، الرقمنة فى البثّ أدَّت إلى تطوُّرٍ هائل فى عالم الإذاعة. هذا ما تبيّن عند ظهور الهواتف الذكيّة التى تساعد فى انتشار الإنترنت، وبالتالى انتشار البث الإذاعى عبر الأجهزة. وفى ما يتعلق بالوصول، فإنّ البثّ على الإنترنت، إضافة إلى البثّ الأرضى الهرتسى، أتاحَ زيادة تعرُّض الجمهور للراديو بفضل مجموعة واسعة من طرق الاستقبال المُتاحة.
ويُمكن زيادة إبراز هذا الاتجاه فى السنوات المقبلة بفضل تطوير «الكائنات المشبوكة» وميزات استمراريّة الاستماع على مختلف المحطّات الطرفية. كان للانتقال من الموجات الطويلة (AM) إلى الموجات ذات النموذج «تعديل التردّد» (FM) (أى تشكيل مَوجة راديو أو موجة أخرى من خلال تغيير تردّدها بخاصّة لحمل الإشارات الصوتيّة)، أثره الكبير فى انتشار الإذاعات عالَميّا.
أدّى التحوُّل الرقمى إلى ظهور استخداماتٍ جديدة، ولاسيّما الاستماع إلى برامج مباشرة خلال بثّها أو غير مباشرة، من خلال انتقاء الشخص المُستمع ما يريد فى وقتٍ محدَّد يُناسبه، وجرى إثراء الإذاعة بوسائط متعدّدة وبياناتٍ تفاعليّة وفيديوهات.
هناك طريقة أخرى واعدة لتغيير الاستخدامات التى يوفرها الويب هى طريقة التخصيص. بَدأ بعض الناشرين بالفعل فى تخصيص برامجهم، ولاسيما عن طريق تقسيم محطّات الراديو الخاصّة بهم إلى محطات إذاعية عدة مستقلة على شبكة الإنترنت تستهدف المستمعين ذوى الأذواق والرغبات المُختلفة.
إضافة إلى راديو الإنترنت، بَدأ يظهر راديو الستلايت، وعلى عكس الراديو الكلاسيكى (الهوائى وأجهزة الإرسال)، فإن راديو الأقمار الاصطناعية يَستخدم أقمارا اصطناعية بسيطة كمرسل وهوائى ليغطى مساحات كبيرة، وهذا ما يحصل حاليا فى أمريكا الشماليّة، ولكنّ هذا الراديو لا يلاقى رواجا كونه غير مجانى، والولوج إليه يجرى عبر الاشتراك، وهو بحاجة إلى أجهزة استقبال محددة.
وما يُثرى الإذاعة هو أنّ الصوت وُلد منذ أن وُلدت اللّغة. وعلى الرّغم من أنّنا فى عصر الصورة، فالصوت يصل مباشرةً إلى الدماغ من دون عوائق أو شوائب. وفى أغلب الأحيان، من دون تمثيل ذاتى للمعلومات. كما أنّ هذه الأداة هى الأكثر عفويّة عند البثّ الإعلامى، وهى الأكثر عفويّة خلال تصوير البرامج وعرضها على شبكات التواصل كتسجيلات فيديو.
• • •
إذا كان هناك وسيط لم يتأثَّر بالتقنيّات سلبا، فسنقول إنّه الإذاعة. ولكن على الإذاعة أيضا أن تتأقلم مع التغيُّرات التى أصابت سلوك الشخص المُستهلِك للمعلومات. إنّ إنتاج محتوى مستقلّ وعالى الجودة (جودة الصحافة الأخلاقيّة) والثقة فى وصول المعلومات إلى كلّ الناس مُتاحان من خلال الإذاعة من دون تغطية للموجات، فضلا عن الثقة بالوصول إلى الأماكن غير المؤهَّلة بالموجات الصوتيّة.
وقد تمَّ ابتكار تطبيقات تسمح بوصول المحتوى إلى مَن يُعانون من ضعفٍ معيَّن فى السمع أو فى البصر (كتابة البراى) وتطبيقات الترجمة الآليّة والتوليف الآلى للصوت... وهنا، ثمّة دَور فى ذلك لتقنيّة الداب بلس digital audio broadcasting+ والواى فاى.
البرودكاستينج والراديو الفضائى ليسا تقنيّات بحدّ ذاتها. هذه التقنيّات تغيِّر الطريقة التى نستهلك بها الراديو. ولكن هل هذه التقنيّات ستغيِّر جوهريّا فى الإنتاج الإذاعى؟ بالتأكيد، البرودكاستينج يساعد كثيرا فى انتشار الإذاعة. كما أنّ التقنيّات أتاحت لأى شخص أن يُصبح صانعا لمحتوىً صوتى، وهذا سيؤثِّر فى الإذاعة.
وبحسب التطوُّر الحاصل، فإنّ مستقبل الإذاعة هو فى الـ DAB+ الراديو الرقمى الأرضى، وهذا هو التوجُّه العالَمى والتطوُّر الطبيعى للـ FM من خلال تقنيّة «الداب»، من المُمكن البثّ لإذاعاتٍ عدّة مُجتمعة من ضمن ما يسمّى متعدّد الموجات، فهو مجّانى ومن دون اشتراك، ومن المُمكن أن نستمع إليه فى أيّ مكان وزمان من دون تشبيك.
والإضافات إلى هذا الراديو متعدّدة: مزيد من البرامج، مزيد من الخصوصيّة فى الخيارات الشخصيّة، مزيد من التنوُّع المحلّى والعالَمى وحسب الموضوع، مزيد من الإذاعات المؤقّتة بحسب الحاجة، مزيد من العفويّة فى البحث يتبع طريقة التنقيب عن المعلومات الألفبائيّة، مزيد من الجودة فى الصوت، مزيد من التنقُّل، مزيد من المعلومات متعدّدة الوسائط، مزيد من أجهزة الاستقبال، مزيد من المرونة، مزيد من المعلومات حول البرمجيّات اللّاحقة، وأخيرا مزيد من التغطية.
• • •
الثورة الفعليّة هى انتقال البثّ من «واحد إلى متعدّد» إلى حالة من «متعدّد إلى متعدّد». عندها، يصبح الراديو أكثر تفاعليّة، إذ سيشكِّل المُستمِع جزءا من البرمجة. الراديو أصبح مُدمَجا مع تقنيّات المساعدين الصوتيّين، مثل أليكسا وسيرى (Alexa & siri)، الأدوات المشبوكة باتت كلّها أدقّ للبثّ الإذاعى.
نظرا إلى المُعاناة التى يعيشها العالَم جرّاء الأخبار المزيّفة، يبقى الراديو الجهاز الأكثر صدقيّة وموثوقيّة من باقى الأجهزة المستخدمة فى نقل المحتوى. تتكيّف العديد من التقنيّات القائمة على المعلوماتية فى السحاب وجمعها معا واستكشافها وتشجيع اعتمادها من قِبل المُجتمعات المحليّة وتصميم نماذج للإدخال لهذه التقنيات فى جميع أنحاء العالَم الذى لا تصل إليه الذبذبات الإذاعية.
• • •
ما تقوله الصورة أضعف بكثير مما يقوله الصوت. ربما سنستمر فى الاستماع إلى الراديو بعد مائة عام، لأن الإعلام عن طريق الأذن أهم من الإعلام بالصور، على عكس ما نعتقد.
ونردف استطرادا، يعدّ الصوت «ثلاثى الأبعاد» خطوة جديدة فى الانغماس الصوتى لبرنامج راديو. ولكن لا يزال من الصعب معرفة ما إذا كان الراديو فى الصوت ثلاثى الأبعاد سينتشر على نطاق واسع، عندما نفكِّر فى فشل تنبّؤاتٍ معيّنة حول التلفزيون ثلاثى الأبعاد. نظرا إلى أنّ الغمر الصوتى يتضمَّن أيضا جودة الصوت، يمكننا قريبا أن نتوقّع تحسّنا كبيرا فى هذا المجال، بفضل رقمنة البث وتعميم السرعة العالية جدا واستخدام تنسيقات جديدة للترميز الصوتى الفعّال بشكلٍ متزايد.
حتّى الآن، فإنّ مقولة أنّ الثورة تدمِّر تماما ما يسبقها غير مُثبتة. فنحن إذا كتبنا، فذلك لا يعنى أنّنا توقّفنا عن الحديث، ونحن إذا طَبَعْنا، فذلك لا يعنى أنّنا توقّفنا عن الكتابة، ونحن إذا ملكنا جهازَ كمبيوتر، فذلك لا يعنى أنّنا سنتوقّف عن الطباعة.
وقد رأينا أنّ الإذاعة تتأقلم مع كلّ التغيّرات التقنيّة، فكيف سيتغيَّر الراديو مع تطوُّر الرقمى نحو الافتراضى الميتافرس؟ إنّه سؤالٌ من ضمن الأسئلة التى يجب طرحُها أيضا. هل سيكون هناك تواؤم للمُذيعين أو سنشهد نَحْتَ مصطلح «راديوفيرس» كمزيجٍ بين مفردة الراديو ومفردة «يونيفرس»؟
النص الأصلى: