لم يكن لليل نهاية.. كلما اشتدت العتمة كلما طال هو وبدت اللحظات تمتط وتتمدد.. تسمر الكون يراقبها تلك الرائعة الجمال الواقفة متوسطة هذا الوطن الممتد تستحم فى ماء نيلها وتلتقط النفس ما قبل الأخير.. كلما تنفس أحدهم فى تلك الليلة اضيف النفس إلى جملة المتنفسين.. طال الليل فكان أن لابد، ويأتى النهار ولكن فى يوم الخميس الرابع والعشرين من مايو لم ينم المصريون ولا غيرهم.. سهر العالم يراقبهم فى البدء لم يصدق كيف اصطفوا جميعا منذ ساعات الصباح الأولى.. كيف مضى اليومين شديدى الغيض دون معارك الطواحين؟ كيف وقفت تلك الفلاحة رافعة إصبعها بالحبر الفسفورى مبتسمة كشمس مصر المشرقة مع أوائل الصيف.. لم تكتمل الفرحة أو ربما جاءت النتائج الأولية لتنثر الحزن بالتساوى فالخاسر هو الوطن ربما! أو ربما هو الرابح إذا ما أبصر المبصرون صوب القادم البعيد..
ازدحم الفضاء، وكذلك غرف المعيشة وموائد المقاهى الشعبية ليلة لم ينم فيها المصريون.. وقف المحللون مذهولون، وكذلك كل العيون المترقبة والمتعطشة للبدء فى البناء. ذاك الذى جاء بعد طول هدم ربما لا ليرمم الجراح العميقة بل ليضمدها ويعيد لحمة الجسم وصحته.. بقى المترقبون ومؤشرات الإحباط والقلق ترتفع كلما توغل الليل فى عتمته ارتفعت نسبة الآهات والتنهدات فوق الكبارى والجسور ومن غرف مضيئة حتى اختلط خيط النور بضياء الشمس الأولى بعد اليومين الحاسمين فى تاريخها وربما فى تاريخنا كلنا.. هرب البعض من الإحباط والحزن إلى النوم إذا ما استطاع إليه وسيلة.. ابتلع آخرون حبات المهدئات والمسكنات، فيما اكتظ الآخرون خلف شاشات أجهزة الكمبيوتر ينقرون على الأحرف كلمات كلها تطرح الأسئلة المكتظة فى الدماغ المتصارعة فى إيجاد الإجابات الصعبة.. كلما ازداد الليل ظلمة راحت كلماتهم تسخر لحظة أو تنثر الغضب الساطع.. إلا أنهم لم يدركوا كم أنهم صانعو تاريخ هذا الوطن الكبير.. لم يفرحوا بطوابيرهم الممتدة وحماسهم اللامتناهى لديمقراطية طال انتظارها.. لم يمنحهم الوقت وقت للفرح.. فيما كل الأعين العربية المتطلعة صوبهم تنظر لهم بشديد الفرح والأمل، وتقول لهم: «يبقى حتى ما تتصورونه ليل طويل هو مشكاتنا وأول نهاراتنا القادمة».
●●●
يبرز ذاك الواقف فوق برميل نفط يردد ربما يوما ما أصبح مثلهم ربما؟ ربما يوما ما أسقط الورقة فى الصندوق شديد الشفافية كالبلور وأبعد عن عتمته! هم لا يدركون كم نتعلم نحن منهم.. هم لا يعلمون كم أن لذاك الدرب الطويل ثمنه أو أثمانه وأن رحلة طويلة قد تبدأ بنصف خطوة لا بقفزة!.. هم لا يعلمون أنهم يعيدون كتابة المستقبل بكثير من الدم حتما والعرق أيضا.. وهم أيضا الذين فى يوم ما وقفوا على ضفاف النهر والبحر يخيطون الحرف خلف الحرف.. يكررونه على مسامع كل تلك العيون المتوقدة والمترقبة للمعرفة يعلمونهم أن يقرأوا بقلوبهم وليس بأعينهم فقط.. هم نفسهم الذين صنعوا ذلك قادرين على تكراره من جديد ربما ببعض الأمل أو حتى بكثير من العلم والمعرفة والعمل..
ليلة لم يكن النوم مرادفها، طالت الأسئلة ولا من مجيب سوى الأوراق المتراصة ترتفع عند اسم فيما تنقص أمام أسماء أخرى.. تقترب من بعضها بعض.. ينزل ذاك القادم من خلف الطوابير يطل برأسه هو المبشر بأن القادم أجمل وأفضل وأنقى وأن رغم طول زمن الجهل إلا أن زينب وفتحية لم تنتظران من يقول لهن مع من يكن.. مع السلم أو الميزان أو النسر أو الحصان أو.. أو! هن للمرة الأولى نزلن كل واحدة باسمها أسقطت الورقة وهى فرحة معلنة مولد زمن آخر.. راح ذاك الصوت من بعيد يردد «لا تنظر إلى الوراء بل تقدم».. «لا تخف من القادم وأعينهم الواعدة مفتوحة تراقب كالصقر» وميادينهم لا تزال عطشى لعناق لن ينتهى.. حالة من الحب الدائم بينهم وبين الأرض التى ارتوت بدمائهم ولن تكون إلا وفية لهم يوما ما.. إنه قادم حتما بعد صبركم وكثير من العمل.