خواتيم الأعمال - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:35 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خواتيم الأعمال

نشر فى : الإثنين 29 يونيو 2020 - 8:05 م | آخر تحديث : الإثنين 29 يونيو 2020 - 8:05 م

هل تذكر كم مرة سألت الله حسن الخاتمة؟ هل خفت يوما أن يكون آخر عملك فى الدنيا ناقصا أو مشوبا برياء الناس؟ هل قضيت ليلة فى فراشك تخشى أن تكون هى آخر لياليك وفى رحلك عمل قليل وكثير من السيئات؟ إن كنت من هؤلاء الذين منّ الله عليهم بضمير يقظ ونفس لوّامة فقد علمت أنك مأجور على عملك ما أخلصته لله، وأن مخلوقا فى الوجود لن يستطيع أن ينقصك أجرا كتب لك بخلاص نواياك وصحة عزمك. فى حياتنا الدنيا الكثير من محطات العمل التى تحتاج بدورها أن تحسن خواتيمها، وأن تسلمها لمن بعدك تامة متقنة ما استطعت. كأن تنهى عملك فى تسليم مشروع كأحسن ما يكون التسليم، وأن تورث بنيك مالا لا نزاع عليه ولا شبهة فى تحصيله... إلى غير ذلك من محطات دنيوية تقع ثمارها فى أيادى البشر قبل أن تراها فى صحيفة عملك عند الخالق.
الأزمة تكمن فى أن تمام الأعمال عند العباد ليس شبيها بتمامها عند رب العباد، إذ إن الأول موقوف على صنيع الناس وردود أفعالهم، على مساعدتهم وتعاونهم ثم على تلقيهم وتقبّلهم للعمل، وهو موكول إلى آرائهم وأحكامهم، وهى جميعا أحكام متحيزة ومشوشة إلا ما رحم ربى.
من هذا الباب يتسرب الشك فى أن رئيسا أمريكيا كان عهده أفضل اقتصاديا من سابقه أو لاحقه. تتحسن مؤشرات النمو والتشغيل والتضخم فى عهد كلينتون مثلا فيزعم الجمهوريون أن من مهّد لها هو چورچ بوش الأب. تسوء بعض تلك المؤشرات فى عهد بوش الابن، فيمتد أثرها إلى فترة أوباما الأولى ولا يسهل الوقوف على من يحمل وزرها... ومازال الجدل الحزبى مشتعلا بين طرفيه بلا جدوى أو حسم وسيظل كذلك ما بقى النظام.
***
التحليل الاقتصادى يكافح تلك المعضلة منذ عقود، يلتمس فى النظرة الكلية للمتغيرات الاقتصادية ونماذج التوازن العام سبيلا لفهم تشابكات المنظومة كلها. تراه أيضا مهموما بتحليل السببية ليقف على أسباب تحسن وتردّى المؤشرات ولو بعد فترات من الإبطاء، لأنه ليس ثمة كرة سحرية تفتح بمجرد الضغط على زر القرار الاقتصادى أو السياسى.
فلو أن تراجع الصناعة الوطنية نُظر له بعدسة ضيقة جزئية، لانحصرت الأسباب فى عناصر العملية الإنتاجية من عمل ورأسمال وأرض وتنظيم.. لكن لو اتسعت العدسة لتلتقط سائر مقومات الاستثمار لأمكنها ملاحظة الأثر السلبى لغياب محفزات الاستثمار الملائمة لطبيعة النشاط الصناعى ومن ذلك سهولة إصدار التراخيص الصناعية.. أيضا ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز الطبيعى للنشاط الصناعى وخاصة للصناعات الثقيلة كالألومنيوم والسبائك الحديدية والأسمدة والحديد والصلب، كلها تؤدى إلى تراجع إنتاجية وجودة الصناعة الوطنية كنتيجة منطقية لتراجع تنافسيتها.
لو نظرنا إلى النشاط الزراعى من عدسة ضيقة لكان تجريف وتبوير الأراضى، والهجرة من الريف إلى المدن وتفتيت الملكية الزراعية هى الأسباب الوحيدة لتراجع الرقعة الزراعية وانخفاض إنتاجية الأرض.. لكن الزاوية الأكثر اتساعا تنظر إلى سلاسل الإمداد وأسعار المحاصيل وأسعار الأسمدة والفقر المائى وغياب المحفزات.. وكثير من المتغيرات التى تؤدى إلى نتائج سلبية تفشل جميع جهود الإصلاح لأبناء القطاع من الداخل.
تصوّر أن تكون طرفا فى تسوية لمديونية مثلا وأنك لا يمكن أن تتم تلك التسوية إلا بتوقيع الطرف الآخر لكنه ببساطة لا يوقّع ولا يبدى أسبابا منطقية فتتعثر التسويات ولا يحمل وزر التعثر إلا الطرف الملتزم، إذا كان استغلال أثمن أصولك التى لا أمل لك فى الإصلاح بدون استغلالها رهنا بقرارات وتوقيعات مستحيلة لصغار الموظفين من عبدة الروتين فإن أيا من الإصلاحات الإدارية أو التشريعية لن تجدى نفعا لو أنها أقيمت بشكل جزئى أو بداخل المؤسسة الخطأ. هنا لا يصح أن تصدر حكما سلبيا على جميع الأطراف دون تحليل مخلص للتفاصيل والتى يكمن الشيطان فيها.
نحتفل اليوم بذكرى ثورة ٣٠ يونيو ضد مختطفى البلاد ومختزليه فى تنظيم فقير، الذين أرادوا بنا العودة قرونا إلى الوراء حتى يعملوا فينا قراءتهم الساذجة للنصوص. وبهذه المناسبة فقد آن للدولة أن تنتفض ضد الجمود والفساد اللذين تراكما فوق جسدها، وأن تكتب سطرا جديدا فى تاريخ دولة حديثة تعلى قيمة العلم، تحلل أسباب الفشل والتراخى، ثم تتخذ قرارا سليما يخضع للتقييم ويقبل التصحيح.
***
أكتب هذا المقال فى آخر يوم لى فى رئاسة الشركة القابضة للصناعات المعدنية بعد أن تقدّمت باستقالتى من رئاسة الشركة فى ٤ مايو الماضى. وقد قضيت فى منصبى ما يزيد قليلا عن سنتين وأتممت عامين ماليين رئيسا وعضوا منتدبا للشركة القابضة للصناعات المعدنية وازدادوا نصف عام عضوا منتدبا للشئون المالية والاستثمار. أحسبنى آخر من يجمع المنصبين بعد صدور القانون الجديد. حققت فيما مكنّى فيه ربى بمساعدة الزملاء الكثير من الإنجازات فى ملفات صدأت عشرات الأعوام. شركات تحولت إلى الربحية لأول مرة فى تاريخها وأخرى أنهت تسويات لمديونيات مليارية حققت على إثرها أرباحا رأسمالية ورفعا للأعباء التى أثقلت كاهل حقوق الملكية.. سددنا أكبر حصيلة لوزارة المالية فى تاريخ الشركة.. هوية مؤسسية جديدة ومقر يصلح لبيئة عمل حقيقية.. مشروعات لإحياء وتطوير شركات أقيمت فى العهد الملكى وأخرى فى مطلع الستينيات.. مشروعات للتحول الرقمى حملناها تنظيميا وإداريا بالإنابة عن جميع شركات قطاع الأعمال وكان انطلاق الفكرة من شركتنا بادئ الرأى.. تعلّمت كثيرا واستفدت مهنيا وإنسانيا لآخر يوم. كثير من الأعمال التامة ونصف التامة وتلك التى حال دونها الكثير من العثرات..
وجدتنى رئيسا لمعهد التبين للدراسات المعدنية بدرجة ومسئوليات وزير (رئيس جامعة كما نص قرار الإنشاء) آليت على نفسى ألا أتركه حطاما كما أسقط فى يدى رغم أنى رئيس غير تنفيذى فبدأنا سلسلة من التغييرات كالتى أدخلناها على مجالس إدارات الشركات التابعة والمشتركة غيّرنا الأشخاص حيث لم نستطع التغيير «فى» الأشخاص.. أعدنا الهيكلة وأحكمنا الرقابة ولم نتهاون مع أى فساد فكان إبلاغ النيابة العامة وجهات الرقابة راجحا على المحاسبات الإدارية الصورية التى جبل عليها الناس.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات