هناك العديد من المؤشرات على تغير فى تعامل المصريين مع حضارتهم القديمة فى عصر الخديو إسماعيل، كان منها ظهور رموز فرعونية فى الصحف مثل صحيفة أبونظارة ليعقوب صنوع وجريدة الأهرام التى اتخذت من الأهرام اسمًا وشعارًا لها. ولا بد من الإشارة إلى أن عهد الخديو إسماعيل عرف استبدال الطغرا العثمانية بالأهرام وأبوالهول على طوابع البريد. وفى العقد الأخير من القرن التاسع عشر يُلاحظ ظهور أسماء مصرية، مثل: مينا ورمسيس فى شهادات مواليد المصريين. وفى نفس الآن نسجل كيف أن شعراء مصريين يشيدون بأثار مصر فى أشعارهم، فقد ألقى أحمد شوقى قصيدة أمام مؤتمر المستشرقين بجنيف فى 1894م أشاد فيها بالفراعنة والبطالمة وحضارة الإسلام.
تواكب صعود هذا الوعى مع تمكن النخبة الوطنية من المناصب العليا فى الدولة، وانتشار الصحافة وازدهار نشر الكتب. وجاء الاحتلال البريطانى لمصر 1882 م ليكرس هذا الوعى، فقد أضحت استعادة الذات عبر الآثار إحدى وسائل المقاومة وتأكيد الهوية الوطنية، وهو ما تجسد فى عصر الخديو عباس حلمى الثانى فى أربعة متاحف، هى:
المتحف المصري: فى 1893 بدأت تتبلور رؤية لإنشاء متحف مصرى حديث يستوعب مقتنيات المتحف القديم التى لم يعد يتسع لها، إلى أن نقل لسراى الجيزة والتى اكتظت بدورها، وبعد فتح مسابقة معمارية اختير تصميم المعمارى الفرنسى مارسيل دورنو Marcel Dourgnon 1858- 1911، فصار أحد رموز القاهرة، افتتحه الخديو عباس حلمى الثانى فى 13 يوليو 1902م.
المتحف اليونانى الرومانى: يقودنا هذا المتحف إلى ما هو أبعد، إذ إن المهندس المصرى محمود الفلكى بدأ حفريات أثرية فى الإسكندرية 1865/1886م، ليرسم عبر تحققه من عدد من المواقع القديمة أول خريطة أثرية للإسكندرية، كان المجتمع المدنى فى الإسكندرية حيويًا نشطًا حتى أعيد إحياء المجمع العلمى المصرى فى الاسكندرية سنة 1859م تحت اسم (مجلس المعارف المصرى) ثم كان لوجهاء المدينة سعيًا فى 1884م لإنشاء متحف للآثار اليونانية الرومانية، لكن الحكومة المصرية رفضت الطلب، ثم جدد فى 1892م ليوافق عليه بشرط توقيع اتفاق مع المتحف المصرى. وقد افتتح فى بناية مستأجرة بقطع تبرع بها حائزوها فى 17 أكتوبر 1892م بحضور الخديو عباس حلمى الثانى، ثم بعد ثلاث سنوات يعود الخديو ليفتتح مبناه الذى جاءت واجهته على الطراز الدورى اليونانى القديم، أعطى المتحف زخما بتأسيس جمعية الآثار فى إبريل 1893م والتى كان لها دور فى النشر العلمى والحفائر والترميم كبير حتى خمسينيات القرن العشرين، وما زالت الجمعية تعمل إلى الآن.
يقودنا الحديث عن هذا المتحف إلى إثارة موضوع تأسيس الدراسات اليونانية الرومانية التى أخذت بعدًا جديدًا بتأسيس جامعة فاروق الأول (الإسكندرية حاليًا) وبإيعاز من الدكتور طه حسين، حيث أخذت هذه الدراسات مكانة كبيرة فى كلية الآداب، فطه حسين بدأ حياته فى التدريس الجامعى بتدريس التاريخ الرومانى فى جامعة القاهرة، بيد أن التاسيس الفعلى لقسم الحضارة اليوناينة الرومانية لم يتم إلا فى عام 1963م. وقد استطاعت كلية الآداب أن تخرج جيلًا من كبار المؤرخين المهتمين بالدراسات اليونانية والرومانية، ومن بينهم: «مصطفى العبادى، لطفى عبدالوهاب يحيى، فوزى الفخرانى»، والآن بها جيل منه: محمد عبدالغنى ومنى حجاج.
المتحف القبطى: جاء الاهتمام بإحداث المتحف القبطى بمبادرة من مرقص سميكة (1864- 1944) أحد أعيان الأقباط، الذى تضايق مما تتعرض له التحف القبطية من ضياع، فأخذ على عاتقه مهمة جمعها والدعوة لمد اختصاص (لجنة حفظ الآثار العربية) ليشمل ترميم الكنائس والأديرة التاريخية، وهو ما وافق عليه البابا كيرلس الخامس، كما جرت الموافقة على إنشاء المتحف القبطى فى 1908. وقد جاب مرقص سميكة مدن مصر فى أفق جمع القطع الأثرية للمتحف، وجاءت التبرعات عونا للمتحف الذى افتتح فى عام 1910.
وكان إنشاء هذا المتحف باعثًا على دراسة الآثار والفنون القبطية. وتطور هذا الاتجاه بأنشاء جمعية الآثار القبطية برئاسة مريت بطرس غالى (1908-1991) فى 24 ابريل 1934م، وكانت تحت إشراف الأمير عمر طوسون، تأسست الجمعية باسم (جمعية أصدقاء ومحبى الفن القبطى) وبعد انضمام شارل بشتلى لمجلس إدارتها تم تغيير اسمها إلى جمعية الآثار القبطية سنة 1937م، تصدر الجمعية دورية علمية، كما قامت بحفائر أثرية، وأصدرت العديد من الكتب، أقامت معرضًا للآثار القبطية رعاه الملك فاروق عام 1944م.
متحف الفن الإسلامى: يمكن اعتبار قصة إحداث هذا المتحف بمثابة قصة علم الآثار الإسلامية فى مصر. فقد شكل الخديو إسماعيل فى سنة 1869م لجنة لحفظ الآثار العربية، لكنها لم تقم بأى دور، كما أن شق شارع محمد على من القلعة لميدان رمسيس أثار فى الصحافة الأوروبية غضبًا بسبب هدم آثار مدينة ألف ليلة وليلة (القاهرة). فى 18 ديسمبر1881م أصدر الخديو توفيق أمرًا عاليًا بتشكيل لجنة حفظ الآثار، برئاسة محمد زكى باشا ناظر الأوقاف والمعارف، والتى قامت ببناء سجل للآثار الإسلامية والحفاظ عليها، لكن يؤخذ على اللجنة تركيزها على تسجيل المساجد، بينما لم تحظ باقى المنشآت بذات الاهتمام خاصة المنشآت الصناعية.
بدأ إنشاء المتحف فى 1881م فاتخذ من أحد أروقة جامع الحاكم بأمر الله متحفًا، وأسند المتحف للجنة حفظ الآثار العربية، لكن سرعان ما تكدست به التحف، وأصبحت هناك حاجة ماسة لبناية تليق به، وفى سنة 1899م وضعت أساسات المتحف فى منطقة باب الخلق بتصميم المعمارى الإيطالى ألفونسو مانيسكالو Alfonso Manescalco 1895 -1903 على الطراز الاسلامى الحديث، وهو أقدم متحف بنى فى العالم للفن الإسلامى، وافتتح الخديو عباس حلمى الثانى المتحف فى 1903م.
لقد كان افتتاح المتحف بداية لانطلاق مدرسة علمية مصرية فى الآثار الإسلامية، كما أبرز الوعى المصرى المتنامى بالآثار. وبرز الدور العلمى للمتحف مع تولى على بهجت (1858- 1924) إدارته فى 1914م، كان على بهجت قام بحفائر فى منطقة درنكة بأسيوط عام 1910، ثم فى الفسطاط. وأثارت اكتشافات الفسطاط مخيلة المصريين. ونشر على بهجت نتائج حفائره فى كتابين أحدهما مع ألبرت جابرييل Albert Gabriel 1883-1972، وهو أحد الباحثين الأثريين المتخصص فى الدراسات الأناضولية ومدير المعهد الفرنسى الأركيولوجى بإستانبول، ونشره فى 1921م. والثانى مع فيلكس ماسول Felix Massoul 1869 - 1942 نشر بعد وفاته 1930. كان الأوربيون فى حقل الآثار الإسلامية أكثر تحفيزًا للمصريين لدخول هذا الحقل عكس حقل المصريات، نرى هذا بوضوح مع جاستون فييت Gaston Wiet 1887-1971 الفرنسى الذى تولى إدارة دار الآثار العربية من 1926 إلى 1935م، فقد حفَّز كل من زكى محمد حسن ومحمد مصطفى للنشر العلمى، بل أدار كلاهما لاحقًا على التناوب فى المتحف، زكى محمد حسن من 1951 إلى 1954م وفى فترته أصبح مسمى المتحف (متحف الفن الإسلامى)، أما محمد مصطفى فقد أداره من 1954 إلى 1963م. وقد كان ما نشراه هو ما جعل منهما علمين بارزين فى مجال البحث الأثرى على الصعيد العربى وكذلك الدولى، فنشر زكى محمد حسن سنة 1935 كتابه (الفن الإسلامى فى مصر) عن دار الآثار العربية 1935م، وتتابعت مؤلفاته المؤسسة لدراسات الفن الإسلامى، ومن أبرزها «أطلس الفنون والتصاوير الإسلامية»، واستعانت به جامعة بغداد من 1954 إلى وفاته فى 1957.
تعبر المتاحف الأربعة (المصرى، اليونانى الرومانى، القبطى، الإسلامى)، والتى افتتحت فى عصر عباس حلمى الثانى، عن صياغة مصر لتاريخها بصورة مخالفة لما كانت عليه فى بدايات القرن 19م، إذ إننا ومع مطلع القرن 20م نرى مصر مختلفة جذريًا عما كانت عليه من قرن، لتأتى أحداث ثورة 1919م، وفك الارتباط مع الدولة العثمانية، لإعادة صياغة مصر بهوية وطنية، ثم تصاعدت رغبة المصريين فى اكتشاف تراثهم الوطنى مع جدل فكرى حول هوية مصر، نرى صداه فى البنايات العامة، فضريح سعد زغلول باشا صمم على الطراز الفرعونى فى قلب القاهرة، وعلى مقربة منه بيت الحكمة (نقابة الأطباء) على الطراز الإسلامى الحديث، وكذلك بناية جمعية المهندسين. هذا الجدل أدى إلى حيوية فى الحياة العامة، كما أن اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون فى 1922 شكل حدثًا أثار مصر والعالم. وعقب انتخاب أول برلمان مصرى فى ظل الاستقلال عام 1924م، ألغت إدارة الآثار التصريح الممنوح لهوراد كارتر مكتشف مقبرة توت، حيث أصبح توت عنخ أمون أيقونة الاستقلال الوطنى، وبدأ السياسيون مثل سعد باشا زغلول ومرقس حنا يزورون المقبرة، لم تكن هذه الزيارات تؤكد أن مصر القديمة ساحرة الجماهير، لكن أيضًا طريقة لتأكيد الوعى المصرى بسيادة مصر على مواقع الآثار التى كانت تحت سيطرة الأجانب، والنى نهبوها لعقود، وبالتالى التأكيد على الماضى القديم كجزء من التاريخ الوطنى.