الأزمة لا تريد أو لا يراد لها أن تتوقف أو تنتهى. هى مثل معظم الأزمات الدولية مفيدة لأطراف ومضرة لأطراف. أزمة مثل أزمات كثيرة يتبرأ منها فاعلوها والمتسببون فيها ويتحمل عواقبها والخسائر المترتبة عليها أبرياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل. ومثلما حدث فى أزمات سابقة أحاطت بنشأتها شبهات التآمر وطالها الاتهام بالخداع والخيانة والكذب المتبادل بين مختلف أطرافها. ومثلها أيضا غابت بعض أسباب نشوبها أو تعتمت بفعل فاعل. مثلها مثل أخريات ومثل انتفاضات وثورات أنجبت مهرجين صاروا بفضلها وفضل حلفائها أبطالا أو سمحت لأبطال وشجعتهم ثم تخلت عنهم أو تعودت عليهم فصاروا فى نظرها ونظر المراقبين كالمهرجين.
هذه الأزمة مثل كل أزمات أوروبا عبر التاريخ قديمة وحديثة مرعبة، تثير فزع الأوروبيين فى الغرب كما فى الشرق، وبعض شرارات هذا الفزع تعبر المحيطات والبحار إلى الأمريكيتين وأفريقيا وعبر الصحارى الشاسعة إلى بلاد تطل على المحيطين الهادى والهندى. انتبه لهذا الخطر الأوروبى الدائم رؤساء فى الولايات المتحدة فخرج أحدهم بقاعدة مونرو تحذر الأوروبيين من الاقتراب من أمريكا الجنوبية، وبعد ثلاثة قرون خرج رئيس أمريكى آخر بحلف وقواعد جعلها مبررا لافتعال أزمة فى البلقان بجنوب أوروبا وبعده بثلاثين عاما خرج رؤساء أمريكيون آخرون بأسباب وحوافز متناقضة ليتدخلوا ويصنعوا أزمة على الحدود الشرعية الفاصلة بين إمبراطوريتى الغرب الأطلسى وروسيا، حدود نصت عليها اتفاقيات دولية وأهمها ما عرف بمذكرة بودابست للضمانات الأمنية الموقعة فى ديسمبر 1994.
من منا لم تحاصره خلال الشهر الأخير خواطر عديدة وأحيانا متناقضة بينما الدنيا من حوله تغلى بأخبار القتل والدمار فى أوكرانيا؟. من منا، أبناء جيل مخضرم، فارقته ولو للحظة واحدة المقارنة بين دوافع غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا ودوافع إقامة صواريخ سوفيتية فى جزيرة كوبا والتهديدات اللاحقة فى كلتا الحالتين بإشعال حرب عالمية نووية؟. من منا، نحن أبناء طائفة المعلقين والمراقبين والمفكرين بالسياسة، لم يجد صعوبة فى وضع تصور للأزمة حول أوكرانيا يخلو من تخطيط استهلك إعداده شهورا وربما سنوات. بعضنا، أقصد أفرادا أو جماعات فى هذه الطائفة، توقع منذ عام 2014 وقوع كارثة على هذا المستوى أو أقل أو أكبر بينما بعض السياسيين كان يعمل بجد وإخلاص لصنع هذه الكارثة وليس لتفاديها. نسى هذا البعض من السياسيين فى هذه الناحية وفى ناحية أبعد أو تناسى أن اتفاقا عقد فى بودابست بين قادة من هنا وقادة من هناك. نص الاتفاق على ألا يتقدم حلف الأطلسى إلى أبعد نحو الشرق فيقترب من روسيا حتى يمس حدا من حدودها فيصبح من حقها عرفا وقانونا أن تدافع ولو بالقوة عن أمنها وسيادتها. الآن فى عرف الغرب الديمقراطى الطابع، وليس الطبع، فإن كل من يرفع هذه الحجة ويأتى على ذكر هذه الاتفاقية أو يدافع عنها فهو بالتأكيد منحاز لروسيا ومناهض للقيم الإنسانية والحريات.
كلما أثير الموضوع أمامى وكثيرا جدا ما يثار، أتذكر التاريخ الأوروبى، تاريخ الحروب المتصلة والمتواصلة تتخللها فترات استقرار ونهضة وحضارة. كان لنا من هذا التاريخ أكثر من نصيب. واحد منها جاء به الإسكندر المقدونى وبطانته من القادة البطالمة مرورا بالحروب الصليبية وغزوات الاستعمار الأوروبى وصراعاته البينية على أراضينا وضد شعوبنا فى آسيا وأفريقيا. أما أمريكا اللاتينية فقد كان من حظها، انتباه أمريكا إلى خطر امتداد الحروب الأوروبية إلى الجزء الجنوبى من الأمريكتين فأصدرت تحريمها الشهير وتمسكت بتطبيقه. من ناحية يجب أن نعترف أنها ربما أحسنت بما فعلت ومن ناحية أخرى أكدت سطوتها وفى الوقت نفسه وضعت قاعدة صارت أساسية بين قواعد أخرى للنظام الدولى الراهن. تنص هذه القاعدة، ليس بالحروف والكلمات، على ضرورة أن تفهم أوروبا أن أمريكا تقود الغرب طواعية وبإرادتها الحرة وليس بإرادة أوروبا ولا بمشاركتها. تقود حينا وتتخلى حينا. تقود فى قضايا وتستقل بالرأى والفعل فى قضايا. أمريكا زعيمة الغرب حين تريد وليس فى كل الظروف وكل الأحوال. أمريكا الترامبوية ليست استثناء فى التاريخ الأمريكى وأمريكا جوزيف بايدن التصحيحية ليست القاعدة. أمريكا إن توفرت المصلحة تدعم من تريد وتفضله أبيض البشرة. هكذا «يهف» خاطر يردد الاقتناع الساكت بأنه إذا كان من حق أمريكا القطب غير الأوروبى أن تفرض على الأوروبيين التزام سلوكيات بعينها فلماذا لا يكون لروسيا، القطب الأوروبى واقعا وتاريخا، الحق نفسه بل وأكثر.
• • •
وهكذا «يهف» خاطر آخر. أمريكا تعاتب روسيا وتحشد الجيوش لردعها وتعبئ الاقتصادات لتقزيمها عقابا لها على غزوها أوكرانيا، هذا الغزو المبرر نظريا بحافزين لهما وجاهتهما. أولا، قطب دولى يغزو أوكرانيا تماما كما سبق أن غزا قطب دولى أفغانستان ثم العراق إلى جانب غزوات سريعة فى مواقع أخرى. لم ينفعل العالم حتى إن بعض القادة السياسيين اعتبر الغزو قاعدة شرعية من قواعد النظام الدولى التى صاغتها أمريكا بنفسها. هذه القاعدة مارستها روسيا السوفيتية ضد دول أعضاء فى معسكرها الشيوعى وتمارسها روسيا البوتينية فى سوريا وفى ليبيا وربما فى أفريقيا الاستوائية وغيرها، وتستعين بها لاستعادة حلم إمبراطورية القياصرة.
• • •
خطر خاطر آخر. الصين لا بد استفادت من كارثة غزو أوكرانيا. أعدت بيانا رائع الصياغة وجعلت بوتين يتبناه بعد وضع إضافات بسيطة من عنده. البيان يشير إلى سياسة للصين تتجاوز هذا الغزو إلى عالم جديد بقواعد جديدة تشترك الصين فى صنعه دون أن تلجأ لتدمير القائم. هكذا تفرض الصين نفسها قطبا تحت التكوين يرفض بعض قواعد النظام الدولى القائم ويقبل بالبعض الآخر وهو الغالب حرصا على الاستقرار والسلم العالمى ولتأمين عملية صعودها. تأتى الصين بسجل «أنظف» من سجل كل قطب من القطبين الآخرين. لا تاريخ لغزو أو استعمار وهيمنة أو تدخل خارجى باستثناء تدخل المتطوعين الحاسم فى الحرب الكورية.
تعتمد الصين على هذه السمعة مع الثقة الكاملة فى أن القطبين الروسى والأمريكى سوف يخرجان من الأزمة الراهنة وسمعة أحدهما حتى لو انتصر فى هذه الحرب فى الحضيض وسمعة الآخر مستمرة الانحدار حتى لو استفاد قليلا من «وكسة» القطب الروسى. تعتمد أيضا على الموقف الغالب لدول العالم النامى. هذا الموقف من أمريكا «المهيجة» للأوكرانيين والأوروبيين ومن روسيا المندفعة لحرب ضد دولة مستقلة وإن متواطئة مع دول أخرى ضدها.
الصين الواعية دوما لتاريخ أمريكا العنصرى والإمبراطورى يجعلها أكثر اطمئنانا على مستقبل مسيرتها نحو القمة. مرة أخرى بعد سبعين عاما، أى بعد باندونج، يعود العالم النامى الأسمر اللون ليشعر بحاجته الماسة إلى الصين قائدا أو رفيقا. استفادت الصين كذلك مما اكتشفته من سلوكيات وتصرفات الدول الغربية خلال الأزمة الأوكرانية. الغرب الجديد الذى اكتشفته الصين ورث عن أوروبا انقساماتها وحساسياتها، وبعضها مدمر لنفسه ومخرب للآخرين. الغرب الذى لم يتوحد فى هذه الأزمة ضد روسيا لن يتوحد ضد الصين. بمعنى آخر يخطر على بالى أن الصين لا تزال تكسب مع الوقت قاعدة من دول عديدة متحمسة لمنحها الثقة عندما تحين ساعة الحسم، ساعة تحسين موقعها فى القمة الدولية.
• • •
خاطر آخر. خاطر يؤكد خاطرا آخر ألح على غيرنا وبخاصة على فلاسفة الإغريق من قبلنا، وهو أن نحذر قسوة رد فعل قوة دولية منسحبة تحت ضغط قوة أخرى صاعدة أو لظروف هددت هيمنتها ودفعت أكثر مصادر قوتها إلى حافة الانحسار. أمريكا منحدرة ورافضة للانسحاب بهدوء أو لخلق مساحة فى القمة للصين الصاعدة وروسيا الساعية لاستعادة مساحة كانت لها فى القمة. تصرفات أمريكا منذ عهد باراك أوباما ومنها الاستعداد للتخلى عن الشرق الأوسط والتحول إلى شرق آسيا بهدف استنزاف الصين كما استهدفت فى عهد دونالد ريجان الاتحاد السوفيتى. ومنها أيضا وضع دونالد ترامب الألغام على طريق الصين الصاعدة والفورة الدبلوماسية والعسكرية التى أثارها جو بايدين فى عجلة فاضحة وتخبط كبير سواء فى الانسحاب من أفغانستان أو غزو أوكرانيا أو الضغط على الخليج لزيادة إنتاجه من النفط. الواضح لنا ولغيرنا أن العهود الأمريكية المتعاقبة منذ انتهاء الحرب الباردة فشلت فى إصلاح البنية الداخلية وفى منع استفحال التفرقة العنصرية. بمعنى آخر فشلت فى المحافظة على متانة وكفاءة المصادر الداخلية للقوة وهذا الفشل دفع إلى التعامل بالعنف لمنع صعود القطبين الآخرين.
يجب علينا عدم الاستهانة بالتهديد بطرد روسيا من مجلس الأمن ومن منظمات الأمم المتحدة، فهذه التهديدات تخدم غرضين فى وقت واحد، معاقبة روسيا على الغزو وإحالتها كقطب دولى على الاستيداع. نذكر جيدا كيف أن الإحالة للاستيداع فى الماضى كانت تأتى بعد حرب عالمية وما زالت ألمانيا واليابان المثالين البارزين. الآن يحدث الاستيداع فى ظروف أزمة دولية تبدو حتى الآن مفتعلة للإيقاع بروسيا وعزلها بدون حرب عالمية. يحدث أيضا، وهو فى نظرى جديد، الحرب الثقافية. إذ خرجت أصوات غربية تطالب بمنع دخول المنتجات الثقافية الروسية ومنها فرق الموسيقى والغناء والرقص الكلاسيكى والفنون الأوبرالية بل والتراث الأدبى الروسى. هل كان يمكن فى زمن العولمة، أى قبل عقدين أو ثلاثة، الحديث عن مطالبة من هذا النوع. أنه التخبط بعينه.
• • •
ومن الخواطر ما ذهب إليه اليسار الأوروبى وفى العالم النامى من حماسة فى الدفاع عن روسيا ضد الحملات الإعلامية وسياسات حلف الأطلسى. المثير للانتباه مجددا والدافع لهذا الخاطر هو الارتباك أو التخبط الأيديولوجى السائد فى مختلف الأرجاء. اليسار مع قطاع غير بسيط من المزاج الليبرالى يتعاطفان مع روسيا ذات الحكم السلطوى ضد أمريكا وضد دول تحكمها أنظمة ديمقراطية تصدر عنها أصوات تبشر بقيم الحقوق والحريات، أصوات ترتفع حينا وتسكت طويلا، وسياسات أكثرها مصحوب بالعنف والظلم أو متسبب فيهما.
• • •
خاطر آخر خطر لى ولغيرى بعد أن سمعنا أو قرأنا ما معناه أن دولا صغيرة خطر لها وربما لأول مرة أن ترفض رغبات دولة فى القمة. سمعنا وقرأنا ورأينا رئيس حكومة دولة كبرى كانت حتى يوم قريب تهيمن وتأمر وتكلف هو اليوم يقف على أبواب هذه الدول الصغيرة يتوسل. ما كان هذا التطور ليحدث بدون أزمة بحجم أزمة أوكرانيا. فى المقابل تتجمع دول صغيرة أخرى ثلاثا ورباعا تستعد لقولة لا أو نعم بصوت أعلى من الصوت المنفرد.
• • •
هناك فى أقاصى الشرق تقف الصين مستعدة بآمال واسعة، هى أيضا سمعت هذه الأصوات وهى الآن كما فهمت، تخطط لتجميعها ضمن تيار واحد.
الاقتباس
«يهف» خاطر يردد الاقتناع الساكت بأنه إذا كان من حق أمريكا القطب غير الأوروبى أن تفرض على الأوروبيين التزام سلوكيات بعينها فلماذا لا يكون لروسيا، القطب الأوروبى واقعا وتاريخا، الحق نفسه بل وأكثر.