سبقته ابتسامته العريضة.. مسحة من البراءة والتسامح صاحبتها والوقت ظهرا والشارع لا يطيق مرتاديه من كثرة ما ازدحموا ونشروا ضوضاءهم القاتلة وسموم عوادم سياراتهم. كان يريد الاستفسار عن الطريق إلى أحد الفنادق الفاخرة فى هذه المدينة المتشحة بالفرح رغم كونها فى خاصرة الوجع الممتد من الحدود إلى الحدود.. كان يرتدى بدلة سوداء كما كل رجال الدين من طائفته أو ديانته وبالقرب منه على المقعد المجاور فى العربة كان الآخر مثله.. رجلا دين يوزعان الابتسامة والتسامح.. تسربت ابتسامته إلى القلب سريعا وأرسلت الكثير من الارتياح.. نادرة ما تشتعل مثل هذه المشاعر فى لحظات رجل عابر على حافة الطريق المزدحم.. وفيما الشارع يختفى خلف كم هائل من العربات، وحده استمر ينثر الهدوء.. هدوء وسط ضوضاء خانقة..
تعمدت أن أتوغل فى الوصف ورحت أصف تفاصيل الطريق المملة. وكررت: لا تدخل الشارع القادم بل الذى بعده وبعد بضعة أمتار حاذر خديعة مفترق الطرق. ابق على اليمين!!! سعدت جدا عندما استمالته لعبتى أو أنه حقا كان غريبا عن هذه المنطقة، فهذه مدينة بقيت مقسمة فى البدء إلى شرقية وغربية ومسلمة ومسيحية ومن ثم إلى جزئيات المناطق وبعدها سيطرت كل مليشيا على طريق أو كما يسمونه «زاروب» وهو الطريق الضيق جدا أو الزقاق.. زاد فى التوغل فى عمق تفاصيل الطريق.. انتشيت أكثر فكلى عطش لرجل دين متسامح لا يرسل التهديد والوعيد ولا يشيح برأسه عن المرأة أو يكفر الآخر! هو كان يتحدث بقلبه وهذا ما لا يعرفه كثيرون منهم.. وكأنه اغتسل بالصفاء النادر بين البشر اليوم وخاصة الرجال منهم!
●●●
هو من دين آخر ربما؟؟.. هناك فى كنيسته استكنت كثيرا، كان للفرح مساحة وللخشوع أيضا مساحات.. فى الجناز استمتعت بالتراتيل بلغة عربية غاية فى الجمال بل الروعة.. لغة جميلة لطالما حافظت الكنيسة الشرقية عليها كما الدين.. مسيحيو الشرق والطوائف والأجناس الأخرى.. من نسميهم بالآخر هم من زينوا حيواتنا.. هم القيمة الحقيقية والإضافية.. هم تلاوين الأيام وأقمار الليالى.
هو أرسل إشارات الفرح.. تركها معى واندس بين الآخرين.
انتهى وصف الطريق وأفكارى توقفت أيضا عند الهنا... ربما عند حافة الخوف التى تغلف بلداننا المتعمدة بالدم والآلام.. وقف هو بتسامحه فى مقابل أولئك الذين أكثروا من الحديث عن الطريق إلى الجنة هذه الأيام وإلى جهنم أيضا للآخرين؟؟؟!!! أولئك حاملو المفاتيح يوزعونها على شباب هم فى العمر الأول للزهر يسيرون بهم فى طرق لا تبعد كثيرا عن الكارثة الواقفة خلف الزاوية تتربص بنا جميعا من هنا حتى آخر هناك.
●●●
فى لحظة تصورت أن العالم قد اصطادنى متلبسة بفعل الفرح.. احمرت وجنتى لا يجوز أن تعجب امرأة برجل دين بكل ما فيه من براءة.. لا مساحة سوى للفصل بين الجنسين فى حياتنا اليومية.. كلما تصورنا أن القيامة آتية كلما ضاقت تلك المساحة المتبقية للفرح البرىء أو ذاك الواقف بين الأديان.. ما علاقة الأديان بالفرح؟؟ انتفض ذاك السؤال، أليست الأديان جاءت من أجل الفرح لى ولها وله ولنا جميعا؟
تداعت الصور بسرعة فائقة وكأننى أمر بها على صفحتى على الفيسبوك.. انطلقت صور لرجال دين كثر كثر ونساء دين أيضا ولكنى توقفت عند رجل دين آخر غاية فى الجمال والمحبة.. كنا قد تجاورنا فى إحدى الندوات فرحت كالطفلة عندما رأيت اسمه على تلك اليافطة البلاستيكية الصغيرة فوق الطاولة واسمى مجاور لها.. انتظرته وسرعان ما أطل هو يحمل ابتسامته كتلك التى رأيتها على وجه الكاهن المسيحى على حافة الطريق.. هو الآخر ليس ربما من طائفتى ولكنه الأقرب لى.. عمامته البيضاء وعباءته السوداء.. استقبل فرحى بكثير من الفرح.. تبادلنا الحديث طويلا عن كتبه وعن محبة الكثيرين له وعن قرائه وعن وعن.. حتى خجل وحاول أن يغير مسار حديثنا لا يحب الإطراء.. هى صفة رجل الدين الحقيقى لا يحب الإطراء فيما يقوم به فذاك واجبه.. كم هم بعيدون عن هذين الرجلين أولئك الذين علقوا المشانق وأغلقوا أبوابهم وأوصدوا النوافذ بإحكام حتى لا «يتدنسوا» بالقادم من هناك.. بحجة أن هذه الأفكار غريبة وهؤلاء ما هم إلا أقلية.. بعضهم استساغ أن يكيل الأوصاف البغيضة ألم تستمعوا لتلك المسئولة وهى تردد «الصفويون» «الرافضة».. كم لغتنا جميلة وكم ينقص هذه المرأة فعل الجمال اللغوى..
●●●
هؤلاء ليسوا بعضنا الآخر بل هم كل الكل. لا أحد يربح فى مثل هذه الأوطان الأحادية.. فالخاسر هو نحن.. كلنا ولا أحد يبقى حتى الطير فى السماء.
كاتبة من البحرين