هل صحيح أن التاريخ البشرى يسير إلى الأمام، فكريا وعمليا..؟ وما هو «الأمام»..؟ هل هو الأكثر «تعقيدا»، جريا على مفهوم «التشعيب» complexity..؟ بالمقارنة مع «البساطة» أو «السذاجة»، أم أنه، إن شئت، الأكثر تطورا من ناحية تكنولوجيا التركيب والأداء..؟ أم هو لا هذا وذاك..؟ ولكن الارتقاء على سلّم التنظيم الاجتماعى ومنظومة القيم المحدّدة للسلوك الفردى والجماعى؟.
إن أخذنا بمعيار التعقيد أو التشعيب الاجتماعى مقابل مجرد «البساطة»، فلا شك أن المجتمع البشرى حقق تقدما هائلا إلى الأمام منذ بداية (التاريخ) حتى الآن.. إذْ لم يعد النشاط الإنسانى يتحقق بالإنسان الفرد، ولكن بالمجموعات ثم المنظومات، وأن هذه المنظومات تعتبر أكثر تشابكا عما قبل، وتحاكيها النماذج الرياضية والقياسية و«النمذجة».
وإن أخذنا بمعيار التطور التكنولوجى للأداة والأداء، فلا ريب أيضا أنه حدث تقدم مذهل، من زاوية السيطرة على الطبيعة، على المادة الصمّاء والأرض الجرداء، وعلى المياه والمحيطات وعلى الفضاء الحيوى بل والفضاء الخارجى، أى على «الكون» بمعناه الضيق ممثلا فى الكوكب الأرضى وما يتصل به، وبمعناه الواسع ممثلا فى جزء أو أجزاء من المجال المحيط بالكوكب من عوالم الفضاء اللا نهائى.
وإن أخذنا بمعيار التنظيم الاجتماعى فسوف نجد تقدما، ولكن أقل مما نراه فى ميدان «التعقيد» وتكنولوجيا السيطرة على الطبيعة من دورة الزراعة إلى دورة الصناعة ثم ما بعد الصناعة، كما يقال كثيرا هذه الأيام. إذْ لم يحدث تغير جذرى مذكور منذ نشوء الأسرة وبروز ظاهرة السلطة، عبر آلاف السنين.
أما إذا نظرنا من زاوية المقولات الفكرية الناظمة للسلوك الاجتماعى والنظم الاجتماعية، فإننا سنجد تقدما طفيفا جدا، هذا إن كنا نجد تقدما ما على الإطلاق؛ إذ لا نستطيع التسليم بسهولة بأن الإنسان المعاصر مثلا أصبح أكثر ميلا لتقبل فكرة الغيْرية (الإيثار) والتساوى مع الآخرين، والعدل فيما بينهم، وتغليب «الجماعية» على الفردية والفئوية الضيقة بمختلف صنوفها أو نطاقاتها.
كما أننا لا نستطيع التسليم بأن الإنسان ــ وبالتالى المجتمع ــ المعاصر أكثر ميلا من الإنسان فى العصور القديمة أو الوسطى إلى تقبل نبذ التعصّب، أو إلى التسامح سواء بمعناه الضيق tolerance ممثلا بقبول الآخر، أو بمعناه الواسع مثلا فى الغفران forgiveness.
ولا يسعنا أيضا القبول بأن الإنسان المعاصر أفضل من قرينه فى العصر القديم أو الوسيط من حيث التمسك بفضيلة الحق (قيمة الصدق) إن ظهر دليل عليه، أو بالخير، إن تبينت أفضليته، مقابل التمسك بالباطل والشرّ، وبالقبح (نقيض الجمال).
ولذا لا نستطيع التسليم أخيرا بأن الإنسان المعاصر والمجتمع، أكثر ميلْا للاصطفاف إلى جانب من يكون معهم «الحق» بمعنى تَمثُّل الحقيقة، لمقاومة (الباطل)، أو أن الإنسان المعاصر من ثم أكثر ميلا إلى العدل والإنصاف فى الحكم، ولو على حساب مصلحته الذاتية الآنيّة، مهما عظمت. والدليل على ذلك أن نظريات العلاقات الدولية، على سبيل المثال، مهما تضاربت، فإنها تصل إلى نقطة اتفاق بأن الذى يحكم العلاقات بين المجتمعات فى عالمنا المعاصر، هى مقولة «المصلحة»، وليس المبدأ المجرد، ولذلك يقولون كما قال «مورجنثاو» إن الواقعية تتغلب على المثالية كإطار نظرى مفسّر للعلاقات بين الأمم والكيانات السياسية على العموم.
بهذا المعنى لا نجد تقدما يذكر، أو نجد تقدما بالمنظور النسبى ليكون الحكم أقل قطعا.
***
وإن أردنا دليلا على عدم حدوث تقدم يذكر فى مجال العلاقات بين المجتمعات، بل ربما ترَاجُع من المنظور القيمى، فإن «الحرب» أصبحت أكثر تكرارية وأشدّ عنفا مما كان عليه الحال فى عصور سابقة. وإن ما يقال عن أعمال عنف واسعة النطاق إلى حد وقوع مذابح أو (مجازر) بشرية فى عصور مضت، يناظرها ما هو أشدّ وأنكى فى العصر الحديث والأيام الراهنة.. ولا نحتاج إلى سوق أمثال كثيرة حول ذلك. كذلك الحال فى التنكّر لأبسط القيم (المثالية) المفترضة. وإنّ ما جرى للشعب العربى الفلسطينى، مثلا، من عدوان واحتلال وتهجير ومن (تطهير عرقي) واسع النطاق على مرأى ومسمع من البشرية المعاصرة، على أيدى الحركة الصهيونية المتحالفة مع بعض الدول الكبرى، خاصة بريطانيا ثم أمريكا، لهو دليل واحد على ما جلّ ما نذهب إليه.
أما عن القيم الباطنة والثاوية خلف النظم الاجتماعية المتعاقبة، فلا نظنّ أنه حدث تقدم جوهرى، ينفى واقع (العبودية) الظاهرة أو المقنّعة، لحساب الحرية الحقيقية. فالعبودية الجزئية التى سادت فيما يسمونه (العصر العبودى) slavery ثم علاقة «شبة العبودية» أو «القنانة» serfdom خلال حقبة الإقطاع الأوروبى الوسيط، قد تقابلها، إلى حدّ ما، وبمعنى نسبيّ ما، «عبودية العلاقة الأجرية» فى النظام الرأسمالى و«شبه الرأسمالى» الحديث.
لذلك نجد أن مقولة التطور التصاعدى على سلم النظم الاجتماعية كما تبناها فريق من المفكرين؛ حتى التقدميين منهم مثل كارل ماركس (1818ــ1883)؛ من العبودية إلى الإقطاع فالرأسمالى، خادعة إلى حد كبير، إذ تجعل المحدد الرئيسى للتطور هو حدث تقدم فى «قوى الإنتاج» وخاصة فى الشق المتعلق بأدوات الإنتاج. وكأنهم يرون أن تنظيما اجتماعيا يسمح بالمزيد من السيطرة البشرية على الطبيعة، ومن ثم تخلص الإنسان من أسْر أو «رق» الطبيعة، سوف ينجم عنه ربما بصفة تلقائية، إلى حدّ بعيد، حدوث مزيد من «التحرر» والانعتاق للإنسان من أسر أو رقّ أخيه الإنسان. وهنا يمكن أن ترِد ملاحظة منهجية تتعلق بالتسلسل المنطقى الذى لا يبرره مجرد التسليم بفكرة التغير ذى الطابع «اللولبى» أو «الحلزونى» للأنظمة الاجتماعية، ويؤكده ما جرى فى الممارسة الفعلية؛ إذْ لم يتبع (التقدم) المادى فى ميدان العلاقة بين الإنسان والطبيعة، تقدم مناظر أو مكافئ فى العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، بل ربما حدث العكس إلى حد ما حيث تقنّعت علاقة القهر الاجتماعى بوسائل مستحدثة سمح بها التقدم التكنولوجى نفسه (راجع: ميشيل فوكو).
ومثال آخر على تهافت فكرة التقدم لدى بعض المفكرين والفلاسفة المعاصرين، غير كارل ماركس، نجده عند «أوجست كومت» (1798ــ 1857) رائد «الوضعية» فى علم الاجتماع، والذى رسم ثلاث مراحل فى تاريخ البشرية: من النظرة «الوثنية ــ التعددية»، إن صح التعبير، إلى «الميتافيزيقية» إلى «العلمية الحديثة». وتنسجم هذه النظرة الوضعية لأوجست كومت مع الخط العام لفلسفة «التنوير» الأوروبية، التى اعتبرت أن سيادة النزعة العقلانية، والنهج العلمى فى التعامل مع الطبيعة، يؤشّر إلى حدوث تقدم «إنسانىس لا شك فيه. هذا ما نراه عندنا محل شكّ.. فإن التنوير بالمعنى الأوروبى ــ الغربى قد اقتصر إلى حد كبير على مجرد استبعاد «ما وراء الطبيعة» من حقل دراسة «الطبيعة»، وكأن ذلك يكفى لبناء ثقافة إنسان جديد. وهذا ما لم يتحقق فى التاريخ؛ فقد ترافق عصر العقل والاستنارة مع تفاقم الظلم الطبقى والاستعمار الخارجى، ثم تقييد العقل بأغلال غير مرئية كما تبدّى فى عصر نضوج الرأسمالية المعاصرة (انظر: «هربرت ماركوز» وكتابه «الإنسان ذو البعد الواحد»).