لقد قادت القرارات والتوصيات التى أخذتها محكمة العدل الدولية بشأن جرائم الإبادة فى فلسطين المحتلة إلى كثير من المناقشات حول ما ترمى إليه أو تحققه أو تتجنبه. وخوفا من الدخول فى كثير من المتاهات وسوء الفهم يجدر أن تقدم الصورة الأساسية فى شكل متوازن لشابات وشباب الأمة العربية، وعلى الأخص فى غزة المبتلاة.
1ــ لقد كانت المحكمة تتعامل مع من تعتبرها دولة، أى الكيان الصهيونى، من جهة ومع منظمة نضالية أهلية، أى حماس، من جهة أخرى. هذا التعامل المتباين جعل المحكمة تتصرف بحذر شديد حتى لا تعطى فرصة للقوى الاستعمارية الغربية للطعن فى قراراتها من خلال التعقيدات القانونية التى فرضها كون حماس ليست دولة.
2ــ لقد تصرفت المحكمة بذكاء شديد عندما طلبت من سلطات الكيان الصهيونى القيام بخطوات ميدانية كثيرة لا يمكن القيام بها إلا إذا توقفت بصورة كلية حرب الإبادة الصهيونية ضد شعب غزة، ولما كان نظام الحكم الصهيونى اليمينى العنصرى المتعجرف لا يستطيع أن ينفذ ما أمرت به المحكمة دون أن يتساقط ويدخل فى صراعات فيما بين مكوناته، وبالتالى استقالته أو إقالته، فإنه يكون قد أدخل نفسه فى مواجهة مع أعلى سلطة قضائية فى العالم، مما سيفقده كل تعاطف شعبى غربى بسبب خروجه على النظام القانونى الدولى. ولن تفيده آنذاك كل ما يقوله رؤساء أمريكا وإنجلترا وألمانيا أو غيرهم التى انكشفت كفضائح أمام العالم كله.
هنا تأتى أهمية أن تحمل الجزائر ملف عدم استجابة الكيان الصهيونى لقرارات المحكمة لمجلس الأمن خلال بضعة أيام. وستسود وجوه أمريكا وإنجلترا وأخواتهما لو استعمل أى منهم امتياز الفيتو لإنقاذ الكيان الصهيونى من ورطة تطبيق المادة السابعة عليه فى حال رفضه لقرارات مجلس الأمن.
وسيكون عارا على هذه الأمة لو لم تقم دولة عربية بتقديم ملف مخالفة الكيان الصهيونى هذا وترك الأمر، مرة أخرى، لدولة غير عربية لتتكرم بحمل تلك المسئولية العربية، فتتضاعف مشاعر العار والذل وقلة الحيلة فى كيان شعوب هذه الأمة المغلوبة على أمرها.
3ــ ستستعمل الكثير من قوى المجتمعات المدنية القانونية، فى العالم كله، قرارات محكمة العدل الدولية كمرجعية قانونية بالغة الأهمية وملزمة، وذلك من أجل رفع دعاوى قضائية ضد كل من ساعد من رجالات الحكم ــ على الأخص فى دول الغرب الاستعمارى ــ الكيان الصهيونى بالمال والسلاح والتشجيع من أجل تنفيذ حرب الإبادة فى غزة وسائر أرض فلسطين.
وفى الوقت نفسه سيتبين لبعض مسئولى العرب، مراجعة علاقتهم مع إسرائيل، بعد أن تبين للقاصى والدانى أن الصهيونية قد انتقلت إلى مستوى أعلى وأكثر دموية وأصبحت بالفعل حركة نازية فاشستية عنصرية، ليس ضد شعب فلسطين فقط وإنما ضد كل عربى وعربية، بما فيه أقطارهم وشعوبهم وحضارتهم ودينهم.
4ــ من المهم أن يتبين لشباب وشابات الأمة أن محكمة العدل الدولية قد نجحت فى ربط الموضوع الفلسطينى أمام العالم كله بموضوع القانون الدولى ومكوناته القيمية الإنسانية. وقرارات المحكمة تقول بصوت يجلجل لشعوب وحكومات العالم كله: هذه مناسبة لترونا وتروا أنفسكم إن كنتم تريدون عالما تحكمه العدالة والمشاعر الإنسانية أم تريدون عالما تحكمه أكاذيب وادعاءات الصهيونية فى فلسطين وأنصارها فى الغرب الاستعمارى، وأيضا فى بعض دول الشرق الاستعمارى مع الأسف الشديد.
قد تنجح القوى الصهيونية وأنصارها فى وضع ضغوط هائلة على المحكمة وعلى قضاتها الشرفاء المحترمين، فلقد عودنا الغرب الاستعمارى على رؤية وجهين متناقضين يقبعان وراء ألف قناع من الشعارات والكلمات المزيفة، لكن أوصاف ومراجع محكمة العدل الدولية بشأن حرب الإبادة الإجرامية المجنونة فى غزة قد دخلت كتب التاريخ، ومثلما تعمل الصهيونية كل مستحيل لتبقى الهولوكوست النازى حيا فى ذاكرة الإنسانية، فإن محكمة العدل الدولية قد كتبت الصفحات الأولى من خزى وعار الهولوكوست الصهيونى فى حرائق المبانى المنهارة فى أرض غزة الصابرة المعتمدة على شعبها الرائع، الذى لا يزال يتطلع إلى عون ربه العادل وإلى عون أهله من العرب ومن يدينون بالإسلام الذين خذلوا إخوتهم وأخواتهم فى العروبة والإسلام والمسيحية.
5ــ كنا لا نريد أن نضيف إلى الصورة محكمة الجنايات الدولية ورئيسها على الأخص الذين بدلا من توجيه الاتهام لمجرمى الصهيونية فى حرب الإبادة هذه ويطالبون بمحاكمتهم، وقف ممثلهم على حدود غزة مغمض العينين والضمير عن رؤية الجوع والعطش والمرض، وبعدها أتبعه بزيارة للكيان الصهيونى ليلتحق بالبكائيات بشأن مئات المستوطنين، وينسى جرائم موت الألوف من أطفال ونساء فلسطين الذين يرقدون فى قبورهم تحت أنقاض الدمار الذى أبكى الحجر، ولكنه لم يستطع أن يبكى مجانين ساسة الغرب الاستعمارى من الذين نسوا كل الشعارات والمبادئ التى رفعتها الأنوار الأوروبية، وأضاعها أمثال هؤلاء الساسة. لكن الأمل فى شعوب ذلك الغرب: فى إنسانية ونبل شبابهم وشاباتهم على الأخص.