فى مقال سابق حذرت من خطايا المشهد السورى، مشددا على أهمية التفاف الطوائف السورية تحت راية المواطنة، رغم الحساسيات والمشاكل والشجون المتراكمة، وداعيا إلى تواصل عربى مع سوريا من منطلق الهوية المشتركة، مع تقدير كامل لجدية التساؤلات حول التوجهات السياسية للقيادات السورية الجديدة، وأهمية وجود مصارحة كاملة لمصلحة الجميع.
شهدت الفترة الأخيرة ــ بالفعل ــ تواصلا كبيرا مع الساحة السورية، من العديد من الأطراف الغربية، من ضمنهم زيارات لوزير خارجية فرنسا وألمانيا إلى دمشق، فضلا عن تواصل عربى متعدد ومتنوع، بين مسئولين سوريين ونظرائهم العرب فى السعودية والإمارات والعراق والأردن ومصر، وحضور اجتماعات مع مسئولى دول الجوار، فضلا عن حضور الرئيس الشرع القمة العربية الاستثنائية بالقاهرة، ولكل تواصلٍ من حيث الشكل والمضمون المعلن دلالاته، ورغم ضرورة معرفة المضمون غير المعلن للاتصالات قبل التقييم الدقيق للأوضاع، لعله من الصواب التقدير أنها تعكس تطلعا عاما للاطمئنان على سوريا، وعلى التوجهات المستقبلية للبلاد وانعكاس ذلك على الآخرين.
ويلاحظ أن تصريحات وأحاديث الشرع منذ البداية عكست اهتماما كبيرا بمخاطبة العالم الغربى، حيث أكد رغبته فى التواصل مع العالم، وأن الأوضاع فى سوريا وتحدياتها الجسيمة تحظى بأولوية على أى صراعات إقليمية، والمقصود هنا أن التصادم مع إسرائيل ليس على أجندته.
سوريا دولة عربية عريقة، ومتعددة الطوائف الممتدة عبر حدودها، والأحداث والأوضاع فيها لها انعكاسات مباشرة إيجابية وسلبية على الدول المجاورة لها، عربية وغير عربية، وعلى سبيل المثال وليس الحصر وضع الأكراد فى سوريا والحساسيات التركية، ويؤثر ذلك أيضا على الأمن القومى العربى بمفهومه الإقليمى، وإذا انحازت سوريا نحو أطراف غير عربية يخل ذلك بالتوازن الإقليمى لغير صالح العرب، وبعد سوريا أول الخاسرين هنا الشعب الفلسطينى اللاجئ والباسل تحت الاحتلال الإسرائيلى، ومن بعدهم الأردن ولبنان المجاوران.
وإذا ظلت سوريا مضطربة متنازعة بين طوائفها، امتد ذلك إلى العديد من دول الجوار خاصة العراق ومنها ومن غيرها إلى الخليج، وإذا تفتت الهوية السورية وانقسمت إلى هويات طائفية مع بزوغ تشكيل المشرق والخليج ينتفى المفهوم السياسى للعالم العربى، بكل تداعيات ذلك من وسط آسيا عبر شمال إفريقيا.
أردنا أو أبينا الوضع السورى يجب أن يحسمه السوريون أساسا، بما يتماشى مع تطلعاتهم وتصوراتهم، والمسألة ليست فى تفضيل نظام الأسد أو بديل هيئة تحرير الشام وأعوانها، وإنما فى الاستجابة لمتطلبات الشعب السورى فى بناء سوريا الأفضل لكل السوريين، مع يقين وتقدير أن خطورة وحساسية الموقف يفرضان علينا عربيا المصارحة الكاملة فى مناقشاتنا وحواراتنا مع السلطات السورية.
ومع احترامى والتزامى الكامل بحق كل دولة بتحديد نظامها وتوجهاتها السياسية، دون تدخل من أحد، طالما لا يمس ذلك الأمن القومى للآخرين، هناك العديد من النقاط التفصيلية والأسئلة المهمة واجبة البحث والتدقيق فى هذا السياق، من أجل خلق زخم سياسى عربى سورى مشترك، وعلاقات سوريا الإقليمية وخاصة العربية هى الأهم والأخطر عن علاقاتها بدول العالم الغربى أو غيره.
وتفرض علينا المصارحة الصادقة مطالبة النظام السورى بمخاطبة العالم العربي، وتوضيح المواقف من جوانب مختلفة، يمكن إيجازها ووضعها تحت عناوين محددة ومباشرة ألا وهى:
هل النظام السورى يؤمن بالدولة الوطنية المستقلة عمودا للنظام الإقليمى العربى، أم ينطلق من أن الهوية الطائفية ومفهوم الأمة تجب اعتبارات السيادة والحدود؟
وهو سؤال جاد ومفصلى للعديد من الدول العربية فى المنطقة، خاصة أن أغلب القيادات السياسية السورية الجديدة لها رصيد سياسى محدد، ويتجاوز الأراضى السورية، وخطوة أولى ومبدئية فى هذه السبيل قد تكون مخاطبة جامعة الدول العربية لتأكيد التزامها بميثاقها وقراراتها.
وهل يلتزم النظام السورى الجديد بعدم التدخل فى الشئون الداخلية لجيرانه وعلى رأسهم العرب، بصرف النظر عن التركيبة الطائفية، ويراعى عدم المساس بمصالح تلك الدول وإثارة حساسيتها؟ ومن أسباب هذا السؤال لقاءات وقرارات تمت مع عدد من الشخصيات المحكوم عليها جنائيا، فضلا عن تجنيس الأجانب وتوليهم مناصب حساسة.
وهنا قد يكون مفيدا أن يبادر النظام السورى بتوجيه رسائل إلى الدول المجاورة له وغيرها، يؤكد فيها على عدم التدخل فى شئون الغير واحترام وحدة أراضيه، مع الاتفاق على ترتيبات حدودية توفر الأمن والأمان.
وهل لا يزال التوجه السياسى للقيادات الجديدة هو الفيصل الحاسم فى معالجتهم السياسية، أم جادون وقادرون على لم الشمل سياسيا توافقيا، خاصة أن أغلبهم انتسب مسبقا لتيارات سياسية استخدمت العنف ولها توجهات سياسية محددة؟
وشهدت سوريا أخيرا صدامات حادة مع طوائف وأقليات غير مرتبطة بالقيادات الجديدة وضحايا تردد أنهم تجاوزوا الألف، وهى أمور يجب أن تنتهى سريعا ويتجنب تكرارها، ورغم بوادر التقدم الأولية المتصلة بترتيبات الحوار الوطنى، لعله من المفيد إصدار إعلان من القيادات السورية بأن عملية إعادة بناء المؤسسات السورية ووضع دستورها وقوانينها ستتم مع التزام كامل بالقانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة، ولعل استكمال آليات ومناقشات المؤتمر الجامع للأطياف السورية قريبا ومن بعده تشكيل وزارة انتقالية مؤقتة خلال الربيع ستوفر فرصا مواتية للرد ولو جزئيا على هذا السؤال الهام، علما بأن المطلوب هنا ليس مجرد وجود تمثيل شكلى للطوائف المختلفة فى مناصب فنية وإنما تأمين دورٍ أو صوتٍ سياسى لهم، والأمر الذى يتحقق جزئيا بتوليهم مناصب عليا فى الوزارات السيادية والأجهزة الأمنية، وكذلك فى هيئة مكتب المؤتمر الجامع وأى لجنة تشكل لإعداد الدستور.
أتفق مع أحمد الشرع فى أن الأوضاع والتحديات فى سوريا متعددة ومتشعبة، وتتطلب عملا دءوبا ومعالجة جوهرية، تحقيقا لمساراتٍ تجمع السوريون بدلا من أن تفرق بينهم، كما أقر بغياب الحلول السهلة أو السريعة فى ضوء طبيعة الخريطة السياسية والاجتماعية السورية، والإرث الثقيل من الممارسات القاسية وغير المشروعة. وإنما أرى أن عليه إعطاء مزيدا من الاهتمام برسالته العربية، واتخاذ بعض الخطوات الأولية والعاجلة التى تعكس الجدية والتوجه الوسطى الوطنى داخليا وإقليميا.
وأتذكر لقاء طيبا لى أخيرا مع شخصية عراقية طيبة سماحة السيد عمار الحكيم، والذى نوه بتحديات الاستقرار وتباين بعض الأولويات حتى فيما بين التجمع الذى أقال الأسد، والذى من واقع التجربة العراقية شدد على أفضلية استيعاب التوجهات الوطنية المتعددة مع مختلف توجهاتها أو الأولويات، مع استبعاد استخدام العنف كلما أمكن، تجنبا للاستقطاب، ليطمئن الشعب السورى على إعادة بناء سوريا العربية لكل السوريين، ولتطمئن دول الجوار على مصالحها وأمنها.
نقلا عن إندبندنت عربية