فى الوقت الذى يشتعل فيه الصراع بين إيران وإسرائيل جراء المواجهات العسكرية الدائرة بينهما بالمشهد الأكثر إثارة سياسيًا، يشهد العالم هذا الأسبوع الفيلم السينمائى «تاتامى» إخراج إسرائيلى إيرانى مشترك فى تعاون غير مسبوق بين مخرجين سينمائيين إسرائيليين وإيرانيين يعيشون في الخارج كاسرًا العلاقة المحرمة بينهما، فيما يتزامن عرض الفيلم مع فترة توترات تاريخية بين البلدين.
أخرج فيلم الاثارة السياسى كلٌّ من الممثلة الإيرانية زارأميرابراهيمى الحائزة على جائزة أفضل ممثلة فى مهرجان كان السينمائى العام الماضى عن دورها فى فيلم «العنكبوت المقدس»، الذى جسدت فيه دور صحفية تتعقب قاتلًا متسلسلًا للبغايا فى مدينة مشهد الإيرانية المقدسة، والمخرج الإسرائيلى جاى ناتيف، الفائز بالأوسكار والمعروف بفيلم السيرة الذاتية لرئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة جولدا مائير (جولدا).
يروى فيلم «تاتامى»، الذى عرض للمرة الاولى فى قسم "آفاق" بمهرجان فينيسيا السينمائى، قصة ليلى، (أريان ماندى )لاعبة الجودو الإيرانية الشابة التى ترفض رغبة حكومتها فى منعها من مواجهة رياضية إسرائيلية فى نهائى مسابقة دولية، فى مدينة تبليسى الجورجية، وتواجه البطلة وعائلتها ضغوطًا سياسية من الحكومة لتزييف الحقيقة وبأنها مصابة والانسحاب من بطولة العالم بدلًا من منافسة منافستها الإسرائيلية فى النهائى.
يركز الفيلم، المكتوب بالكامل تقريبًا باللغة الفارسية وصور بالأبيض والأسود عبر أجوائه الدرامية المتوترة على لاعبة الجودو ومدربتها التى تجسدها المخرجة فى أوج التحديات مع تقدمها فى البطولة الكبرى، وأنه يجب على ليلى الاختيار بين اتباع الأوامر أو المخاطرة بحياتها وحياة مدربتها مريم وسلامة عائلتها.
المهم بعد وصولهما وبدء عمليات الإحماء، سارت الأمور على ما يُرام للفريق الإيرانى، إلى أن التقت ليلى بنظيرتها الإسرائيلية فجأة، قد يكون الجمهور مُستعدًا لصراع وشيك، لكنهما بدلًا من ذلك، لم يُبدِيا سوى بعض الود، إنهما تعرفان بعضهما البعض جيدًا ويبدو أنهما على وفاق.. فى الواقع، تشعر بأنهما مجرد متنافستين، جنسيتهما مُهمَلة، عندما تبدأ المرأتان بالصعود فى الترتيب، وتفوزان مباراة تلو الأخرى، يزداد احتمال مواجهتهما بشكل كبير، ثم تتلقى مريم مكالمة هاتفية، يريد رؤساؤها من ليلى الانسحاب من المنافسة بدلًا من مواجهة إسرائيل، أو «النظام المُحتل» كما يُشير الصوت على الطرف الآخر من الهاتف، فالمنافسة تعنى الاعتراف بإسرائيل، وهو أمر لم يفعله النظام الإيرانى منذ ثورة ١٩٧٩، فى البداية، احتجت المدربة مريم، لكنها تراجعت مُستسلمةً لهزيمة مُرهقة، لكن ليلى رفضت.
القصة المستوحاة من أحداث حقيقية، لفتت انتباه ناتيف لأول مرة عندما علم بسعيد مولاى، بطل العالم فى الجودو الذى أمره مسئولون إيرانيون بخسارة مباراة نصف النهائى عمدًا فى بطولة العالم 2019 لتجنب نهائى محتمل ضد لاعب الجودو الإسرائيلى ساجى موكى، و حُذر مولاى من أنه سيواجه عواقب وخيمة إذا تحدى الأمر.
وفى يوليو 2022، أُقيمت أخيرًا المباراة التى طال انتظارها بين لاعبى الجودو الإيرانيين والإسرائيليين فى بطولة بودابست جراند سلام، وفاز مولاى بالتثبيت فى الجولة الثالثة من البطولة، وتعانق هو وموكى - اللذان أصبحا صديقين الآن - بعد المباراة، واحتفل موكى بهذه اللحظة فى منشور على انستجرام واصفًا إياها بـ«انتصار الرياضة على السياسة».
الأكثر إثارة من الفيلم هو ما تكشف عنه اعترافات صناعه، فرغم تزايد الضغوط على الفنانين لمقاطعة إسرائيل، وهو قيد يُفرض أحيانًا على أفراد إسرائيليين، يقول المخرجان إنهما يعتبران الفيلم مشروعًا دوليًا، ودليلًا على أن ما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، فالجودو رياضة مشهورة جدًا فى إيران وإسرائيل قائمة على الاحترام.. خصمك ليس عدوك، عليك أن تنحنى، عليك أن تحترمه، وقد شعرنا بأنها الرياضة المناسبة لسرد هذه القصة.. نؤمن بأن الفن هو صوت العقل الذى يخترق الصخب.
تقول زار أميرابراهيمى التى تعيش الآن فى المنفى فى فرنسا: «فى العقود الأخيرة بذلت الحكومة الإيرانية كل ما فى وسعها لمنع الإيرانيين والإسرائيليين من الالتقاء ببعضهم البعض فى الفعاليات الدولية، ومع ذلك، وجدنا طريقة».
وتضيف: «فى المدرسة، تعلمتُ أن إسرائيل غير موجودة.. وفيما بعد لا يُسمح لنا بالعمل معًا، أو الالتقاء، أو تكوين صداقات، أو التنافس مع هذا العدو».. و«فى إيران، لا يستطيع صانعو الأفلام قول الحقيقة، يمكنهم العمل على هذه المواضيع، لكنها ستكون دائمًا مجرد أنصاف حقائق، وفى هذا العمل أخذتُ وقتى.. ليس من السهل المخاطرة، إنه خط أحمر لحكومتى أن تتعاون مع الإسرائيليين».
فيما ذكر المخرج الإسرائيلى جاى ناتيف الذى كتب السيناريو مع الكاتبة الإيرانية الفرنسية إلهام عرفانى: «هناك أوجه تشابه بين بلديهما/ نحن دولتان متشابهتان نوعًا ما، نمر بنفس الاجواء، يمكنك أن ترى أن نفس النوع من الثورة يحدث فى إسرائيل وإيران».
واعترف أن فى إسرائيل، الحكومة متطرفة للغاية يرون هذا التعاون بمثابة خطوة ثورية.. نتنياهو ضد الديمقراطية، ملايين الناس يتظاهرون، كما تُنتهك حقوق المرأة مجددًا.
وقال: «الأمر كله يتعلق بالحكومات الشمولية، والنظام الإيرانى، والنظام الروسى، والنظام الإسرائيلى، وحتى فى أمريكا، كما ترون، يزداد الاستبداد أكثر فأكثر».
لطالما كانت العلاقة بين إيران وإسرائيل معقدة ومشحونة سياسيًا، ويُترجم هذا الموقف فى مختلف المجالات، بما فى ذلك السينما، ومع التصعيد الأخير تجدد الجدل حول تعاون السينمائيين الإيرانيين والإسرائيليين مستقبلًا.. لكن ذلك هو المشهد الموازى.. وتلك هى القصة الجديدة.