قبل أربع سنوات أوفى المرشح باراك أوباما بوعده أثناء حملته الانتخابية الرئاسية الأولى بأن يوجه رسالة إلى المسلمين من عاصمة إسلامية حال فوزه، اختار الرئيس أوباما أن يلقى خطابه من مصر ومن جامعة القاهرة تحديدا يوم 4 يونيو 2009. ورأت وكالة رويترز أن هدف الخطبة، التى أطلق عليها «بداية جديدة»، تحسين العلاقة بين أمريكا والعالم الإسلامى التى شوهت كثيرا أثناء فترة رئاسة جورج بوش الابن.
إلا أن أوباما لم ينو فقط البحث عن بداية جديدة فقط فى علاقات واشنطن بالعالم الإسلامى، بل كان يسعى أيضا لبداية جديدة لعلاقات واشنطن بالقاهرة. ما ذكره أوباما فى خطابه فى الجزء المتعلق بالديمقراطية أسعد وأحبط النظام المصرى فى وقت واحد، من ناحية أكد على عدم مشروعية التدخل فى شئون الدول الأخرى بقوله «لا يمكن لأية دولة، ولا ينبغى على أية دولة، أن تفرض نظاما للحكم على أية دولة أخرى». إلا أنه عاد وقال «إن أمريكا تحترم حق جميع من يرفعون أصواتهم حول العالم للتعبير عن آرائهم بأسلوب سلمى يراعى القانون، حتى لو كانت آراؤهم مخالفة لآرائنا، وسوف نرحب بجميع الحكومات السلمية المنتخبة، شرط أن تحترم جميع أفراد الشعب فى ممارستها للحكم».
وجاء قرار أوباما اختيار القاهرة لتكون منبره الأول للحديث مع العالم الإسلامى ليمثل ضربة قاصمة لكل من حاول إقناعه بغير ذلك. فقد نصح عدد من الخبراء الرئيس الأمريكى بالتوجه إلى أسطنبول أو جاكرتا بدلا من القاهرة استنادا إلى أن الزيارة لابد أن تكون إلى دولة يحكمها نظام ديمقراطى، وتكون ذات أغلبية إسلامية، وهذان الشرطان ينطبقان على كل من إندونيسيا وتركيا، وليس على مصر.
ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهى سفن المعارضين، حيث اختار أوباما القاهرة دون النظر لكل تلك الاعتبارات السابقة. ورأى أوباما أن اختياره القاهرة جاء لعدة أسباب يأتى فى مقدمتها:
أولا: أن القاهرة هى قلب العالم الإسلامى ولغتها الرسمية العربية وهى لغة القرآن وبالتالى فإنها تمثل إحدى البقاع السحرية فى المنطقة التى سوف تسهل بالضرورة مهمة أوباما وتزيد من شعبيته لدى بلدان العالم الإسلامى.
ثانيا: الثقل السياسى لمصر والذى بدا جليا فى أزمة العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى أيام حكمه الأولى، حيث قامت مصر بجهود حثيثة للتخفيف من حدة الأزمة وتهدئتها وذلك على الرغم من الوهن الذى أصاب ذلك الدور على المستوى الإقليمى فى الفترة الأخيرة.
ثالثا: الأهمية الاستراتيجية لمصر بالنسبة للولايات المتحدة باعتبارها الوسيط الرئيس فى الصراع العربى الإسرائيلى، والذى يمثل التحدى الأكبر للأمن القومى الإسرائيلى الذى تعتبره الولايات المتحدة أحد أهم الموضوعات على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية عبر الإدارات المتعاقبة.
ورغم سعادتى الكبيرة باختيار مدينتى القاهرة لإلقاء الخطاب، إلا أن سماح زيارة أوباما للقاهرة لتجديد حيوية العلاقات المصرية الأمريكية بعدما تسبب الرئيس جورج بوش فى إحراج الرئيس مبارك لدرجة دفعته لوقف زيارته السنوية للعاصمة الأمريكية لمدة خمس سنوات أزعجنى. وبعد ذلك قام الرئيس مبارك بزيارتين أخيرتين لواشنطن فى أغسطس 2009 وسبتمبر 2010 قابل خلالهما الرئيس أوباما فى البيت الأبيض. وعاد نمط العلاقات بين الدولتين لنمط عهده القديم وسط تناقض المبادى المعلنة والمصالح العليا.
من ناحية أخرى، لم يقابل الرئيس الأمريكى نظيره المصرى حتى اليوم. لم يقم الرئيس الأمريكى بزيارة القاهرة لمباركة وصول محمد مرسى كأول رئيس منتخب بحرية فى التاريخ المصرى والعربى، واكتفى فقط بإرسال وزيرة خارجيته يوم 14 يوليو الماضى. كذلك تجاهل أوباما زيارة القاهرة فى مارس الماضى رغم أن زيارة للمنطقة أخذته لإسرائيل والضفة الغربية والأردن.
ليس بالسر أن واشنطن تدرك تطلع الرئيس المصرى لزيارتها لأسباب متعددة، فقد خرج بيان لمؤسسة الرئاسة فى أغسطس 2012 ليذكر أن الرئيس مرسى سيقوم بزيارة العاصمة الأمريكية واشنطن بعد انتهاء زيارته لنيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال سبتمبر، وهو ما لم يحدث. ثم خرج بيان للرئاسة المصرية ليذكر أن زيارة الرئيس مرسى ستتم خلال شهر ديسمبر 2012، وهو ما لم يحدث أيضا. ثم ذكر الرئيس مرسى نفسه لمحطة سى إن إن قيامه بزيارة واشنطن قبل انتهاء شهر مارس 2013، وهو ما لم يحدث أيضا. وحتى الآن اكتفت الإدارة الأمريكية برسائل غير مباشرة لا ترحب بزيارة الرئيس المصرى إلى واشنطن، وتشير إلى أنها «غير مدرجة» على جدول أعمال أوباما رغم ما تعلنه رسميا، الرئاسة المصرية، فى أكثر من مرة عن زيارة تقود الرئيس مرسى إلى البيت الأبيض.
قاهرة مبارك التى زارها أوباما، واستقبل بعدها مبارك مرتين فى البيت الأبيض، كانت بلا شك أكثر استقرارا وأكثر أمنا ومسيطر عليها بنظام ديكتاتورى بوليسى صارم. أما قاهرة مرسى فهى للأسف أقل أمنا وبالطبع أقل استقرارا وأكثر فوضى، إلا أنها بلا شك أكثر ديناميكية وأكثر حرية حتى مع وجود الكثير من الانحرافات والانتهاكات للقواعد الديمقراطية.
قاهرة اليوم تشهد مولد ديمقراطية وليدة خرجت من رحم نظام استبدادى سيطر على مقدرات الملايين لعقود طويلة. وأكرر مرة أخرى أن رغبة الرئاسة المصرية فى قيام الرئيس مرسى بزيارة لواشنطن يجب أن يكبح لجامها، وأن تتم وفقا لترتيبات ندية بين الطرفين المصرى والأمريكى، طبقا لحسابات الربح والخسارة لكل طرف. زيارة الرئيس المصرى لا يجب أن تكون منحة أمريكية ذات مقابل، فواشنطن تدرك جيدا أنها لا تملك ترف تهديد علاقاتها بمن يحكم مصر، حتى مع تراجع الوضع السياسى والاقتصادى المصرى.
يخطئ أوباما وتخطئ واشنطن إذا ما اعتقدت أن قاهرة مرسى تسعى للحصول على نفس الرضا الذى حصلت عليه قاهرة مبارك. عليهم فقط تذكر أن القاهرة لا تفقد رصيدا من عدم زيارتها، ولا تضيف زيارة واشنطن شرعية لرئيس منتخب.