أحس صاحبنا ببرودة مفاجئة تهاجمه رغم أن الوقت كان عز الصيف، هكذا هي عادته دائما حين يشتد عليه الحزن .. تنتابه قشعريرة حادة ..تصطك أسنانه بصوت عال ويتحول جلده إلى مجموعة من المسامير المدببة. في كل المواقف التي فقد فيها أحبّة على قلبه كان يسحب أحباؤه الراحلون معهم كل الدفء من أوصاله ويتركونها عارية تصفعها الرياح ، وها هو حبيب جديد يذهب. من اليوم لن يشرب فنجان قهوته الصباحي من صنع يدي "عّم صالح" ذلك الساعي النوبي الطيب الذي ارتبط بمذاق قهوته على مدار عشرين عاما كاملة، ارتبط بهذا المذاق وربما حتى توحد إلى الدرجة التي صار معها يحكم على كل مذاق آخر للقهوة بأنه دون مذاق قهوة "عّم صالح" أو مثله، صار هذا المذاق مقياسه .
***
عندما دخل صاحبنا الشركة لأول مرة وهو شاب حديث التخرج دلّه زملاؤه على شخصين قالوا عنهما إنهما أهم مَن في الشركة "عّم صالح" و"عّم سالم " ، الأول هو المسؤول عن "ضبط مزاج " الموظفين، والثاني هو المسؤول عن حسابات البوفيه .كان الرجلان من أبناء النوبة .. نزحا إلى القاهرة معا منذ ستينيات القرن الماضي، والتحقا بالشركة في العام نفسه، وارتبطت أسرتاهما بعلاقة مصاهرة، وتشعبت علاقة الصداقة بينهما، لكنهما كانا مختلفان. كان "عّم صالح" مثل النسمة كما يقولون، قليل الكلام، خفيض الصوت، لا ينفعل أبدا مهما حدث، أما "عّم سالم" فكان على النقيض ثرثارا ، خفيف الظل، عالي الصوت، سريع الانفعال. وعندما كان يختلف الرجلان كان شجارهما يبدو كما لو كان عبارة عن مونولوج أو حوار من طرف واحد، يثور "عّم سالم" ويرغي ويزبد ويخترق صوته الأبواب المغلقة ، أما الطرف الآخر فيلتزم الصمت أو هو يهمس بما لا يسمعه أحد ولا يميزه مخلوق. كان "عّم سالم " قوي الشخصية قادرًا على فرض رأيه على من حوله، وعادة ما كان يسايره "عّم صالح" تجنبا للمشاكل. يذكر صاحبنا كيف رفض "عّم سالم" اليونيفورم الأنيق الذي وزعته الشركة لأنه محبوك على جسده و يجعل حركته أصعب، ومع أن "عّم صالح" كان له قوام ممشوق إلا أنه أخذ بدوره يتخفف من ارتداء اليونيفورم ثم لم يعد يرتديه أبدا . كانت طباع الرجلين تختلف لكنها كانت تتكامل ، فبعض المواقف كان يحتاج هدوء "صالح" وصبره وباله الطويل ، وبعضها الآخر كان يحتاج حماسة "سالم" وحميته وحتى اندفاعه ، وهكذا فعندما كان يتغيب أحدهما عن العمل كان الشعور العام لدى الموظفين هو أن إيقاع الحياة داخل الشركة يحتاج ما يضبطه، وسرعان ما تعمق هذا الاحتياج.
***
كان "عّم سالم " متوجها للشركة كالمعتاد، انتظر الأوتوبيس المزدحم طويلا ثم حاول أن يندس فيه مع جموع الراكبين ، تعثرت قدمه .. سقط .. لم ينتبه السائق ومضت العربات في طريقها كالمعتاد. عندما وصل صاحبنا إلي عمله وبلغه النبأ دخل في حالة إنكار كخط دفاعي أول عن سلامه النفسي، ثم استوعب وانتبه فتملكته رعشة الحزن إياها وجعلته كعصفور بلا مأوى في يوم مطير. دخل على "عم صالح" في البوفيه فوجده مطرقا ذاهلا ، مد إليه يده فإذا بالرجل يرتمي بين ذراعيه وتهزهما الرعشة اللعينة هزا . ياااااه يا "صالح" ، كل هذه الدموع ..كل هذا النشيج ..كل هذا الحب .صار الرجل وحيدا ، تحرر من سيطرة صهره إلى الأبد وامتثل لارتداء اليونيفورم الأنيق لكنه لم يتوقف عن ذكر "سالم " قط، ظلت مهارته في صنع القهوة على حالها لكن دفاتر الحسابات التي آلت إليه أوقعته في "حيص بيص" فهو لا يحسن التعامل مع الأرقام ، لم تبارح السكينة ملامحه الطيبة كالمعتاد لكن خالطها أسى مكتوم ، كانت الحياة تسير.
***
عندما نما لعلم "عّم صالح " أن إدارة الشركة بصدد إنهاء تعاقده وآخرين تغلب على حيائه ربما للمرة الأولى في تاريخ خدمته، وسّط صاحبنا لمفاتحة الإدارة الجديدة في أمره لكن وساطته فشلت. لم يعد "صالح " رجل المرحلة فقد كانت هناك نظرة مختلفة لتطوير خدمات البوفيه بواسطة متخصصين. توالى العد التنازلي لأيام "عّم صالح " في الشركة ، في البداية كان العدّ بالشهور ثم بالأيام وأخيرا بالساعات، ودّ صاحبنا لو يوقف آلة الزمن فما بينه وبين "صالح" أكثر جدا من مجرد حبيبات البن المطحون، لماذا يتعاملون مع موظفيهم كقطع الشطرنج ؟ لم يجب أحد. وفي اليوم قبل الأخير ل "صالح " في العمل شوهد يستند على الباب الخارجي للشركة بعد نهاية الدوام، قبل أن يتجمع المارة من حوله كان قد سقط مغشيا عليه .. لا لم يُغش عليه، توحدت علاقته بالعمل مع علاقته بالحياة وارتبطت هذه بتلك، وقبل أن تنظم له الشركة احتفالا في يوم غد كان قد أعد لاحتفال آخر مع صديقه النوبي، هل حقا هو الذي أعد؟