نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتب «محمد مجاهد الزيات» يتناول فيه الأهداف التى تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقها فى سوريا والرؤية الأمريكية لتحقيق ذلك.
تزايد الحديث فى الأسابيع الأخيرة عن مواقف مختلفة لكلٍ من الولايات المتحدة وتركيا، وكذلك روسيا وإيران. فبعد تناقض التصريحات الأمريكية حول الانسحاب العسكرى، انتهى الأمر بعد مفاوضات بين واشنطن وأنقرة إلى الإبقاء على 200 جندى أمريكى فى شمال سوريا، وكذلك 200 جندى فى قاعدة التنف قرب مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية.
إن قراءة دقيقة للتحولات الجارية فى سوريا، تشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف، نوجزها فيما يلى:
أولا: توفير نوع من الحماية للأكراد، يحول دون اجتياح تركيا لمنطقة منبج والوصول إلى دير الزور وغرب الفرات، وذلك من خلال الفصل بين مناطق تمركز تركيا ومناطق تمركز القوات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الكردى والتى تمثل أغلب ما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية الحليفة للولايات المتحدة، والتى تولت محاربة «داعش». وإن كان الاتفاق بهذا الخصوص قد تضمن انسحاب تلك القوات من جزء كبير من شمال سوريا لصالح قوى سياسية كردية ذات صلة بتركيا، وقيام قوات عسكرية كردية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطى الكردستانى العراقى (بارزانى) بتأمين المنطقة.
ثانيا: طمأنة الدول الغربية المشاركة فيما يسمى بقوات التحالف (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا..) بما يسمح ببقاء قواتها العسكرية فى شمال وشرق سوريا، وهو ما يعنى استمرار نحو 1200 جندى ضمن هذه القوات خلال الفترة القادمة.
ثالثا: استثمار هذا الموقف الإيجابى الأمريكى على مستوى العلاقة مع الأكراد بهدف منع التقارب الذى تصاعد فى الفترة الأخيرة بينهم وبين الحكومة السورية، ومطالبتهم بدخول قوات سورية للمنطقة، وهو الأمر الذى سعت روسيا لتحقيقه لاستكمال سيطرة دمشق على الأراضى السورية، وملء الفراغ الذى سيسببه الانسحاب الأمريكى.
رابعا: التأثير بقدر الإمكان على التقارب والتفاهمات التى تتم بين تركيا وروسيا وإيران، والتى رتبت تداعيات بينها، ليس فقط فيما يتعلق بتطورات الأزمة السورية، ولكن على مستوى العلاقات الثنائية، ويمكن أن تؤثر على طبيعة التوازنات الدولية والإقليمية فى المنطقة، خاصة على استراتيجية المواجهة الأمريكية مع إيران.
***
ولا شك أن دوائر صنع القرار الاستراتيجية فى واشنطن قد نجحت فى إقناع الرئيس الأمريكى بضرورة استمرار امتلاك أدوات للحركة وأدوات ضغط فى الأزمة السورية تسمح بممارسة تأثير أمريكى على تطوراتها، ولا تترك المجال مفتوحا أمام الحضور الروسى والإيرانى.
ومن الواضح أن الرؤية الأمريكية لتحقيق ذلك سوف تتبنى عددا من المسارات، من أهمها التأكيد على مسئولية دول المنطقة ــ خاصة العربية الغنية ــ فى تحمل تكاليف الوجود العسكرى الأمريكى، وهو ما يحرص الرئيس الأمريكى على الإلحاح عليه. وقد وافقت بعض هذه الدول بالفعل على تحمل هذه التكاليف، ولا يزال الحوار جاريا بين واشنطن وبعض هذه العواصم حول مشاركة بعض قواتها فى ملء الفراغ العسكرى الأمريكى فى شمال وشرق سوريا تحت مسمى «قوات حفظ سلام» أو «فصل بين القوات» لمحاصرة التمدد العسكرى السورى المدعوم من إيران وحلفائها، الأمر الذى سوف يزيد من تعقيدات الأزمة السورية، وصعوبة الوصول إلى تسوية لا تتوافق مع المصالح الأمريكية، وهو ما يعنى ــ من ناحية أخرى ــ أن تظل الولايات المتحدة والدول التى قدمت مليارات الدولارات للتنظيمات العسكرية والتى بلغت بشهادة رئيس وزراء قطر السابق أكثر من 200 مليار دولار لإسقاط وتغيير النظام السورى، تواصل مساعيها للضغط على دمشق تحت دعاوى جديدة بعد القضاء على «داعش» من بينها محاصرة النفوذ الإيرانى الذى تمدد بصورة كبيرة، وتغيير توجهات النظام.
كما أن الرؤية الأمريكية قد بدأت تتحرك أبعد من ذلك، خاصة ضغوطها هى ودول أوروبية ــ مثل فرنسا ــ من أجل وقف التقارب الذى تبلور أخيرا بين عدد من الدول العربية والحكومة السورية، واستبعاد طرح عودة دمشق للجامعة العربية فى القمة القادمة كنوع من الضغط عليها، واستمرار إفقاد النظام السورى شرعيته العربية.
الولايات المتحدة ــ إذن ــ تحاول إعادة معادلة التوازن الدولى والإقليمى فى تطورات الأزمة السورية والمنطقة بما يكفل نفوذا أمريكيا مؤثرا. وإذا كانت أدوات التأثير العسكرى على النظام قد تلاشت تقريبا؛ فإن منع الحكومة السورية من فرض سيطرتها على جميع الأراضى السورية يعنى أن النظام لن يكون صاحب الكلمة الوحيدة فى مستقبل سوريا. كما أن محاولة تسويق بعض التنظيمات العسكرية التى نجح النظام فى محاصرتها ونقل قواتها إلى الشمال لتكوين قوات عسكرية جديدة يسمح لها بالمشاركة مستقبلا فى الجيش الوطنى السورى؛ هى محاولة لاستعادة بعض النفوذ العسكرى الذى نجحت دمشق وموسكو بالتحديد فى القضاء عليه. ومن الطبيعى أن تتضمن الرؤية الأمريكية لإعادة القضية إلى مسار جنيف، والتركيز على دور الأمم المتحدة لتحقيق إنجاز فيما يتعلق بتشكيل لجنة إعداد الدستور؛ تجاهل الواقع السياسى والميدانى اللذين يحظى فيهما النظام بالغلبة والنفوذ، وإتاحة مساحة أوسع لقوى المعارضة التى تفتقد حاليا لأى تأثير للمشاركة المتوازنة معه لصياغة الدستور الجديد، وتكرار النموذج العراقى لدولة سورية لا مركزية.
هكذا، يتضح أن الموقف الأمريكى لم يتعامل مع الموقف التركى إلا بما يتوافق مع رؤيته لمستقبل سوريا، وهو ما سيتيح لتركيا تحقيق أطماعها فى ضم عدد من المدن والقرى فى شمال سوريا، ومحاولتها إقامة نوع من الحكم الذاتى التابع لها فى محافظة إدلب وشمال حلب فى منطقة عفرين. ومن الملاحظ أن أنقرة بدأت ذلك بمد شبكات كهرباء ومياه إلى مناطق شمال حلب، وإنشاء مدارس ومعاهد تعليمية هناك، كما وافقت على إمداد ما يسمى بحكومة الإنقاذ فى إدلب التابعة لتنظيم فتح الشام (النصرة) بالكهرباء فى مناطق سيطرتها لكسب رضاء السكان. وهناك أخبار حول إنشاء تركيا مشروعات خدمية فى تلك المنطقة ترتبط بمثيلتها التركية.
إن الضغط الأمريكى لوقف التقارب العربى والخليجى مع سوريا يستهدف استمرار عزلة النظام، وحتى لا تستفيد دمشق من ذلك دوليا، ورهن أية مساهمات من تلك الدول فى عملية إعمار سوريا باعتبارها أهم أدوات الضغط القادمة لتبقى قضية اللاجئين مثارة دوليا، وترتب تداعيات سلبية على التعامل مع النظام، ويزيد من تأثير ذلك القانون الذى أصدره الكونجرس والذى يفرض عقوبات على الدول والشركات التى تشارك فى عملية إعادة إعمار سوريا فى ظل الأوضاع الحالية.
الأزمة السورية لم تقترب ــ إذن ــ من الحل، والصراع الإقليمى والدولى حول سوريا مستمر ومتواصل. والغريب أن الجامعة العربية لم ترَ فى كل ذلك ما يستحق أن يُدرج على أعمال قمتها القادمة فى تونس، بل إن كثيرا من الدول العربية لم ترَ أن الوضع قد حان لاستعادة دمشق لمقعدها فى الجامعة.
النص الأصلى:من هنا