اهتمت صحيفة واشنطن بوست بأحد الموضوعات القيمة والتى يجب تناولها بالتحليل، وهو عن التحديات والعقبات التى تواجهها مراكز البحوث فى الوقت الحالى. وقد نشرت الصحيفة مقالين شاملين يتناول أحدهما ــ وهو للكاتبة والصحفية أماندا بينيت ــ أهمية المراكز البحثية والعقبات التى تواجهها، وتوضح فيه بينيت أن أهم ما تنتجه تلك المراكز هو «الأفكار» التى تطرحها فى هيئة كتب وأبحاث، وهو ما لم يعد يتوافق مع تسارع الأحداث. فبالنظر للملايين العديدة التى تمتلكها تلك المراكز إلا أنها مازالت تواجه تهديدات مستمرة لكونها تواجه قوى أخرى خارج سيطرتها كالمدونات واليوتيوب والمقاطع الصوتية ومواقع التواصل الاجتماعى وغيرها من تلك الوسائل التى يسهل الدخول عليها والحصول على المعلومات. فى حين أن المقال الثانى ــ وهو لجيمس ج. ماكين ــ أستاذ الدراسات الدولية ومدير برنامج المجتمعات المدنية ومراكز البحوث بجامعة بنسلفانيا، يتناول تلك التحديات أيضا، ولكن من منظور مختلف، حيث يطرح الكاتب هنا عددا من النصائح التى يجب أن تتبعها مراكز البحوث من أجل مواكبة التغيرات الجديدة ولتحافظ على وضعها كمراكز تحوز ثقة السياسيين بأفكارها وتحليلاتها العميقة.
ويمكننا البدء بالتحديات التى أوضحتها بينيت حيث اعتمدت فى المقال على تصريحات مسئولين بمراكز البحوث بخصوص التحديات التى يواجهونها، منهم دونالد أبيلسون ــ الأستاذ بجامعة ويسترن أونتانيو ــ الذى قال بأن «سوق الأفكار أصبحت مزدحمة، ومراكز البحوث أصبحت تكافح وتعانى كى يُسمع صوتها. وكون أن لديها فى ميزانيتها ملايين عديدة لا يعنى بالضرورة أن بإمكانهم التأثير فى السياسات». ويؤكد على ذلك ماكين حيث قال بأن «فكرة أن تقوم أنت بعمل الأبحاث وكتابتها ويأتى صانع القرار حتى بابك ليحصل عليها لم تعد متاحة الآن، فالأحداث تتسارع، والوقت لا يتسع لكتابة الأبحاث بالطريقة التقليدية ــ أى نشرها فى الكتب والجرائد ــ خصوصا أن الأفراد الآن لديهم وسائل أخرى يحصلون بها على المعلومات وهو ما يشكل تحديا كبيرا لمراكز البحوث والقائمين على طرح تلك الأفكار».
وتوضح بينيت أن فكرة مراكز البحوث تعود لبداية القرن العشرين عندما فكر أصحاب الصناعات بأن الحكومة غير المهنية لا تليق بهذا العصر.. وعليه فإنه لابد أن يتم صقلها بأفكار جديدة من مراكز البحوث. وتعد أمريكا هى المسيطر الأساسى على مراكز البحوث فى العالم بواقع 1830 مؤسسة أى 28% من نسبة مراكز البحوث فى العالم، يليها الصين بنحو 429 مركزا. فمراكز البحوث تنتج أفكارا وتهدف لإحداث تأثير فى السياسات. فى حين ذكر ماكين فى مقاله أن مؤسسات بحوث السياسات العامة شهدت تطورا كبيرا فى السبعينيات وقد وصل عدد مراكز البحوث فى العالم اليوم لأكثر من 6500 مركز على مستوى العالم بممثلين فى كل دولة. وقد ازدهرت الفكرة وفقا له بفضل العولمة والمجتمع المدنى وبسبب زيادة تعقيدات القضايا السياسية والمجتمعية التى تتطلب تحليلا دقيقا ووقتيا. ولكن تباطأ هذا الازدهار فى السنوات الحالية، وأصبحت تلك المراكز على وشك الانقراض إلا إذا تمكنت من مواجهة التغيرات المتسارعة فى الاقتصاد السياسى.
إذن فما الذى تغير بالنسبة لمراكز البحوث؟
ذكر ماكين أن هناك عددا من العوامل التى ساعدت فى تراجع دور مراكز البحوث ومنها العجز فى التمويل الذى تحصل عليه لأداء مهامها، وهو ما أدى إلى الاهتمام أكثر بالمشروعات قصيرة الأجل على حساب المشروعات طويلة الأجل، بل والاهتمام بقضايا بعينها دون أخرى، إضافة إلى ذلك فإن ظهور بيئة غنية بالمعلومات تتمثل فى مواقع التواصل الاجتماعى وغيرها من الوسائل التى يسهل الدخول إليها ساهم كثيرا فى هذا التراجع، كما أنها تواجه منافسة من قبل جماعات الاستشارات وشركات المحاماة الهادفة للربح ووسائل التواصل الاجتماعى التى أصبحت تجذب وتلفت انتباه الأفراد والسياسيين لضيق الوقت لديهم.
بينما قسَّمت بينيت التغييرات التى طرأت والعقبات والتهديدات التى تواجهها مراكز البحوث لعدد من النقاط. تناولت فى البداية فكرة المنافسة، حيث ظهرت وسائل يمكن من خلالها طرح الأفكار للتأثير على السياسات؛ فالالتزام بالأبحاث والتحليل المطول والمناقشات لا يتماشى مع المجموعات غير الرسمية التى تستخدم الرسائل الحماسية والعنيفة والسريعة. ومع ذلك يشيد البعض بجودة التحليلات التى تقدمها مراكز البحوث ويؤكد أنه مع الوقت سيتم الانتباه لها.
أما بشأن وسائل التواصل الاجتماعى فإن مستقبل مراكز البحوث وهدفها فى التأثير لم يعد يعتمد على تقارير الـ100 صفحة ولكن على تأقلمها مع التغريدات ومشاركات الفيس بوك ومقاطع الفيديو والمواقع المختلفة. وبالتالى فعلى الرغم من أن مراكز البحوث تسرع وتحاول مواكبة الوضع بالنشرات الإلكترونية والتغريدات فإنهم يواجهون بذلك خطر فقدان أصالتهم ومعرفتهم التى يفخرون بها، ويخشون أن يتيهوا فى ظل التهديدات المماثلة؛ خصوصا أن ثقافتهم متجذرة فى التقارير والكتب.
إضافة لخطر تهديد استقلالية تلك المراكز فقد أثرت الأزمة الاقتصادية العالمية فى 2008 على التمويل الذى تحصل عليه مراكز البحوث أيضا، وهومما جعل مراكز البحوث تتوجه للحصول على التمويل من الشركات والأفراد والمؤسسات الذين يتدخلون بطرح شروطهم الفكرية خصوصا إن كان لهم توجه معين، وحتى الممولون ممن ليست لهم أجندة سياسية يتدخلون بطلب تحقيق كفاءة معينة وتأثير محدد، وهو عكس ما كان يتبعه الممولون السابقون الذين يمولون المراكز ويتركون لهم حرية التصرف كونهم أكثر وعيا بعملهم. ولكن الممولين الحاليين يستخدمون أموالهم لتحقيق برامج معينة. فأصبحت مراكز البحوث أقل قدرة على التأثير فى أجندتها من ذى قبل. وهنا تتساءل إلن لابسون: «من لديه المعرفة؟ ومن يضع الأجندة؟ وإلى أى مدى يتوافر الاستقلال الحقيقى لتلك المراكز بعد ذلك؟».
وأفادت بينيت أن تلك السياسات التمويلية الجديدة إنما تضع المراكز تحت ضغط قياس تأثير برامجهم. فمن الصعب أن يتم تحديد من فعل ماذا. فبالبحث عن أى سياسة جاءت من أى مركز سنجد ــ فى أغلب الأحوال ــ أنها تحسب لعدد من المراكز البحثية وليس مركزا بعينه. فمدى إحداث تأثير يصعب قياسه فى عالم الأفكار، ومحاولة قياسه تؤدى إلى التركيز على وضع هدف أصغر فى مناقشة السياسات حتى يمكن قياس التأثير بعد ذلك، كما تؤدى للتركيز على مدى الانتشار العام للمركز وذلك بتحليل أى مركز بحوث يتفوق على الفيس بوك أو غيره من خلال عدد المتابعين وعدد التغريدات والمشاهدات وهكذا.
فماذا على مراكز البحوث أن تفعل إذن؟
رأى ماكين أن صناع القرار بحاجة لمعلومات مفيدة وموثوقة ويسهل الوصول لها فيما يخص آليات السياسة الحالية ورصد تكاليف وعواقب البدائل المتاحة، خصوصا أن الوضع يتطلب سد الفجوة بين البحث والحلول التى يتم تطبيقها بالفعل. ولذا فإنه يطرح عددا من النصائح التى يجب على مراكز البحوث اتباعها حتى تتمكن من مواكبة الأوضاع وتحتفظ بمكانتها ودورها. فمراكز البحوث عليها أن تستوعب أولا التهديدات والفرص التى تواجهها وتحاول أن تلبى متطلبات السوق.
أولا: لابد أن تصدر تلك المراكز أبحاثها فى الوقت المناسب وأن تسهل الوصول إليها حتى يستفيد منها صناع القرار والإعلاميون والأفراد. فزمن كتابة الأوراق البحثية وتجهيزها ليبحث عنها السياسيون قد ولى، وبالتالى يجب على تلك المراكز أن تسلم تلك البحوث للمهتمين بها بالشكل الصحيح وفى الوقت المناسب، وعليها أن تستعين بوسائل التواصل الاجتماعى فى الترويج لها وتوجيه السياسيين لها خصوصا أنه لم يعد لديهم الوقت الكافى لقراءة الكتب أو البحث عنها.
ثانيا: لابد أن تستجيب مراكز البحوث لفكرة توفير المعلومات والتحليل السريع. لابد أن تكون ذكية بما يكفى للتكيف مع تسارع تدفق المعلومات الذى توفره التكنولوجيا الحديثة. ويضيف ماكين: إنه يمكنها أن تتغلب على تلك النقطة بتطوير شراكات دولية وإقليمية ومحلية وإنشاء قاعدة جديدة لتوصيل وجهات نظرها للمواطنين والشركات وصناع القرار، فتلك الشراكة هى التى يمكن أن تساعد فى نشر تلك الأفكار والابتكارات ووجهات النظر لتصبح مؤثرة.
وأخيرا، بينما ترى بينيت أن تلك المراكز تواجه عقبة الجمود الأيديولوجى، وتعنى أن الحكومة تصعب عليهم فرصة طرح أفكارهم، فإن الدورات الانتخابية الصغيرة التى تحدث كل عامين تحدث تزاحما فى الأفكار بل وتقلل انتباه واهتمام المسئولين بالمراكز وأفكارها وتحليلاتها. إلا أن ماكين يؤكد أن مراكز البحوث هى الأقدر على تقييم الأفكار والآراء الجيدة والخطيرة والسيئة التى تغزو الإنترنت ووسائل التواصل كل يوم؛ ولذلك سيلجأ إليها صانعو القرار للتأكد من صحة مواقفهم والقضايا السياسية التى يناقشونها كل يوم. ولكن كل ما عليها هو أن تبادر باتباع استراتيجية الاتصالات الحديثة وتبرع فى التكنولوجيا الحديثة كى تبقى وتستمر لسنوات عديدة أخرى، وإلا فبدون ذلك ستنتهى.
مقال «أماندا بينيت» كاملا على:
http://www.washingtonpost.com/news/inــtheory/wp/2015/10/05/areــthinkــtanksــobsolete/
http://www.washingtonpost.com/news/inــtheory/wp/2015/10/06/forــthinkــtanksــitsــeitherــinnovateــorــdie/?postshare=3131444211864950
إعداد ــ تغريد مجدى نور