حالة تطبيقية على الفقر - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الأحد 29 ديسمبر 2024 2:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حالة تطبيقية على الفقر

نشر فى : الأحد 2 فبراير 2020 - 7:45 م | آخر تحديث : الإثنين 3 فبراير 2020 - 11:33 ص

عرجنا خلال مقالين سابقين من سلسلة ثلاثية حول الفقر، على جوانب متعددة من مشكلة الفقر على المستوى النظرى العام، ذى الطابع التجريدى النسبى على كل حال. واليوم نقارب القضية انتقالا من حيز النظر العقلى إلى ميدان المعالجة التطبيقية، ممثلة فى حالة الفقر فى المجتمع المصرى كما يعكسها بيان إحصائى حديث صادر منذ فترة، تضمنته ورقة توثيقية موجزة ذات طابع رسمى بمعنى معين.
نعمد هنا إلى مقاربة الفقر وفق الطريقة التى اتبعها «الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء» بجمهورية مصر العربية فى إعداد «بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2017/2018».
هذا البحث قام على مسح ميدانى بالعينة على مستوى الجمهورية، اشتملت على 25800 أسرة معيشية، وجرى المسح خلال الفترة من أول أكتوبر 2017 إلى نهاية سبتمبر 2018. وقد وردت نتائج المسح فى وثيقة مفصلة بعنوان (أهم مؤشرات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك) صادرة فى مايو 2019، نعرض منها هنا خلاصة القسم التاسع عن «الفقر».
وقد أحدثت النتائج المذكورة، حين نشْرها أول مرة، صدى واسعا بين قادة الرأى فى البلاد؛ وكان أكثر ما لقى الاهتمام فى هذا الصدد، ضمن ذلك القسم عن الفقر، تلك الخلاصة عن: «تطور نسبة الفقراء من إجمالى السكان وفقا لمقياس الفقر القومى خلال فترة 1999/2000ــ 2017/2018».
***
يتضح من النتائج المشار إليها بالخصوص، وفق المنهجية المعتمدة فى الوثيقة محل الدراسة، ارتفاع نسبة الفقر فى مصر بشكل مضطرد خلال العقديْن الأخيريْن (1999/2000ــ2017/2018) .
قد ارتفعت تلك النسبة من 16,7% عام 1999/2000إلى 19,6% عام 2004/2005 وإلى 21,6% عام 2008/2009 ثم إلى 25,2% عام 2010/2011. ومنه تتبين الزيادة المتسارعة فى معدل الفقر الإجمالى خلال الفترة التى سبقت ثورة 25 يناير 2011 مباشرة، إذ زادت بنحو خمس نقاط مئوية خلال عاميْن فقط: 2008/2009 ــ 2010/2011.
هذا يعنى أن الظروف الاقتصادية ــ الاجتماعية كانت حبْلى بحلم الثورة الشعبية المنتظرة على عتبة العقد الثانى من الألفية الجديدة، وخاصة بأثر تفاقم الفقر الجماعى المتسارع فى ظل ما سمى آنئذ «حكومة رجال الأعمال» و«مشروع التوريث».
أما خلال العاميْن الذيْن أعقبا ثورة يناير 2011 فقد ثبتت تلك النسبة، أو زادت زيادة طفيفة، عند حد 26,3%، فى ظل الإجراءات التى اتخذتها السلطات الانتقالية لتلطيف المناخات النفسية الاجتماعية التى خيمت على السماوات المصرية آنئذ، و«التوقعات المتزايدة» التى أطلقتها انتفاضة الثوران الشعبى العرمرم فى الميادين الواسعة، ورمزها المبهر «ميدان التحرير» بالقاهرة.
يذكر فى ذلك أنه، برغم الانخفاض الحاد فى معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى إلى ما دون الصفر، بعيْد ثورة يناير، حسب بعض التقديرات، فقد تمت المحافظة على وتائر الإنفاق العام والحكومى فى المجال الاجتماعى، كما فى نظم الدعم الحكومى للسلع الأساسية والتموينية والخدمات العامة كالكهرباء والمياه، ومرافق الصحة والتعليم العمومية. بل وحدثت زيادة ذلك الإنفاق زيادة عظيمة على إثر توظيف المزيد من العاملين فى المؤسسات العامة والحكومية بما يزيد عن قرابة المليونين، من خلال «التعاقدات المؤقتة» ــ التى جرى تثبيتها فيما بعد ــ بما يحمله ذلك من انفجار ضمن اعتمادات الباب الأول للموازنة العامة من (الأجور والمرتبات) وخاصة مع رفع الحد الأدنى للأجور فى الحكومة والقطاع العام فى دورة أولى آنئذ.
وقد استمر المعدل المتباطئ لزيادة الفقر خلال فترة العاميْن من 2012/2013 إلى 2015، عند عتبة 27,8%. ولكن نوعا من القفزة فى معدل الفقر قد حدثت خلال السنتين التاليتين ــ اعتبارا من 2016؛ على إثْر الشروع فى تنفيذ البرنامج ذى الطابع «التقشفى» المتفق عليه مع «صندوق النقد الدولى»، ليرتفع معدل الفقر الإجمالى خلال عام 2017/2018 إلى 32,5%.
هذا يعنى تضاعف نسبة الفقر خلال فترة الدراسة تقريبا، عبر العقْدين محل البحث، من 16,7% عام 1999/2000 إلى 32,5% فى 2017/ 2018، مما يشكل مؤشرا واضحا على تعثر المسار التنموى المصرى خلال عشرين عاما، قبل وبعد ثورة يناير. (ويعرف الفقراء ــ وفق الوثيقة محل الدراسة ــ بأنهم السكان الذين يقل استهلاكهم عن إجمالى كلفة المكون الغذائى الأدنى، والمكون غير الغذائى الأدنى أيضا، واللذيْن لا يمكن الاستغناء عنهما كاحتياج أساسى للإنسان).
كان ذلك بمثابة امتداد لفشل متعدد الوجوه لعملية التنمية فى مصر خلال أربعين عاما ويزيد ــ منذ 1971 ثم منذ منتصف السبعينيات، فى ظل «الانفتاح الاقتصادى» وتعميق التبعية للغرب، ويا للغرابة الملْغزة: بعد الانتصار العربى ــ المصرى فى حرب أكتوبر 1973. تحقق ذلك على إثْر الانزواء المصاحب لانتهاء حالة الحرب مع إسرائيل بحكم عقد (معاهدة السلام) فى 1979، إذْ كان يفترض المزيد من توجيه الجهد المجتمعى نحو عملية التنمية الشاملة، بالمعايير العالمية المعاصرة، على غرار شرق آسيا مثلا، وفى إطار من التكامل العربى والتعاون الإفريقى.
***
هذا بعض مما استخلصناه من الشكل رقم 9ــ1 من وثيقة «أهم مؤشرات بحث الدخل...» المشار إليها آنفا.
هنالك أيضا الشكل رقم (9 ــ 2) بعنوان: «تطور نسبة السكان تحت خط الفقر المدقع لإجمالى الجمهورية خلال فترة «1999/2000ــ 2017/2018» ــ وهم الذين لا تكفيهم دخولهم لمقابلة احتياجات الاستهلاك من المكون الغذائى اللازم لبقاء الفرد على قيْد الحياة. قد ارتفعت نسبة السكان أولئك خلال فترة الدراسة، 1999/2000ــ 2017/2018، بأكثر من الضعف، وذك من 2,9% فى بداية الفترة، إلى 6,2% فى نهايتها.
و بالعودة إلى التحليل الأساسى هنا، بالبدء من حيث انتهينا حول دلالات البرنامج «التقشفى» خلال الفترة من أواخر 2016 حتى آخر 2018، فإننا نلاحظ تباطؤ الزيادة فى معدل الفقر المدقع بالذات، مقابل ارتفاع نسبة الفقر العام، كما رأينا. ويعود ذلك إلى نوع من الكثافة فى الإجراءات المتخذة فى إطار منظومة الحماية الاجتماعية، الموجهة إلى أشد الفئات الاجتماعية فقرا. وقد تم تدبير شطر كبير نسبى من التمويل اللازم لمنظومة الحماية الاجتماعية المذكورة من خلال الاقتراض التيسيرى المقدم من «البنك الدولى» و«البنك الإفريقى للتنمية» ومصادر أخرى، كما فى حالة برنامج «تكافل وكرامة» و«الإسكان الاجتماعى» وإسكان المناطق العشوائية، جنبا إلى جنب الحفاظ النسبى على منظومة «البطاقات التموينية» الموجهة لتوفير عدد من السلع الأساسية لفئات اجتماعية واقعة تحت خط الدخل المحدد.
وقد ترتب على ما سبق، وقوع العبء الأكبر للبرنامج التقشفى على عاتق بعض الفئات الوسيطة من المجتمع، بما فيها الشرائح ذات مستويات الفقر المتوسطة والمعتدلة، من أصحاب «الدخول الثابتة»: كاسبو الأجور والمرتبات فى القطاعين الحكومى والخاص، والخاص بالذات، من العمال والموظفين وأصحاب (المعاشات) وكذا بعض من «العاملين لحساب أنفسهم» من العمالة الموسمية وغير المنتظمة، ومن «القطاع غير الرسمى» ومن إليهم. هذا، بينما تنجو نسبيا، الفئات الأعلى دخلا من ذوى الدخول الثابتة. وفى المقابل العكسى، تحقق «الفئات ذات الدخول المتغيرة» على المستويات العالية بالذات، من مالكى رأس المال وكاسبى «شبه الريع» من كبار المهنيين، تعويضا عن ارتفاع التكاليف من باطن رفع أسعار منتجاتها السلعية والخدمية، بالإضافة إلى أصحاب ما يسمى «الدخول القدرية» من ذوى «المكاسب والأرباح الرأسمالية» جراء المضاربة وصفقات المال.
وفى عجالة استخلاصية نقدم شذرة ختامية لازمة، حيث ينبغى أن يتمثل الهدف الرئيسى فى استئصال الفقر، وليس مجرد الحد منه، وذلك من خلال السير على طريق التنمية الحقيقية الذى يستند إلى ثلاثة عُمُد، أولها: بناء قاعدة إنتاجية قوية ومتناسقة؛ وثانيها: التوجه نحو تحقيق قدر مناسب من «العدل التوزيعى» و«الإنصاف والتكافؤ» و«العدالة الاجتماعية»؛ وثالثها: السعى إلى تحقيق «الاستقلالية النسبية» فى العلاقات الاقتصادية الدولية.
أستاذ فى معهد التخطيط القومى ــ القاهرة

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات