دولة ما دون الدولة - سمير العيطة - بوابة الشروق
الإثنين 3 مارس 2025 12:51 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

دولة ما دون الدولة

نشر فى : الأحد 2 مارس 2025 - 6:40 م | آخر تحديث : الأحد 2 مارس 2025 - 6:40 م

 

إن أكثر من ثمانين بالمئة من الشعب السورى يعيشون تحت خط الفقر حسب تقارير الأمم المتحدة، بل تزداد أحوالهم سوءًا مع استمرار العقوبات وتراجع الحركة الاقتصادية مع واقع حبس السيولة والأجور والمعاشات التقاعدية. والأخيرة هى حق وليست منة. رغم ذلك، لم يتضمن البيان الختامى لـ«مؤتمر الحوار الوطنى السورى» أية إشارات إلى مسئولية الدولة فى مكافحة الفقر وضمان العيش الكريم للسوريين والسوريات. واكتفى البيان بالحديث عن ضرورة «تبنى سياسات اقتصادية تحفيزية تعزّز النمو وتشجّع على الاستثمار وحماية المستثمر، وتستجيب لاحتياجات الشعب وتدعم ازدهار البلاد». بالمقابل، ألقى البيان مسئولية معاناة الشعب السورى على العقوبات الخارجية وحدها وتحدث عن «مشاركة مؤسسات المجتمع المدنى فى دعم المجتمع.. وإعادة الإعمار.. وتحقيق التنمية والاستقرار». مشاركة من؟!

• • •

كانت مواضيع الاقتصاد ومعيشة المواطنين قد استحوذت على حيز كبير من نقاشات ومفاوضات لجنة تحضيرية استمرت 25 يومًا فى صيف عام 2012 بغية إقرار «عهد وطنى» لسوريا تبنّته جميع أطياف المعارضة السورية فى مؤتمر يوليو بموازاة بيان جنيف 1. وكان لافتًا إلى أن ذلك المؤتمر قد أقرّ مواد الاقتصاد ومعيشة المواطنين دون تعديل، على عكس مواد أخرى كحقوق المرأة التى تمّ الانتقاص منها. ومن المفيد اليوم التذكير بالفقرات المعنية بالاقتصاد والمعيشة فى العهد:

• تصون الدولة الملكية الخاصة، التى لا يجوز الاستيلاء عليها إلاّ للمنفعة العامة ضمن القانون ومقابل تعويض عادل، دون أن يعاد تجييرها لمصالح خاصة.

• تصون الدولة المال العام والملكية العامة لمنفعة الشعب، وتقوم سياستها على العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة المستدامة وإعادة توزيع الدخل والثروة عبر النظام الضريبى بين الفئات الاجتماعية وبين المناطق، وكذلك على ضمان حرية الاستثمار والمبادرة الاقتصادية وتكافؤ الفرص والأسواق ضمن ضوابط تكافح الاحتكار والمضاربات وتحمى حقوق العاملين والمستهلكين.

• تلتزم الدولة السورية بإزالة كل أشكال الفقر والتمييز ومكافحة البطالة بهدف التشغيل الكامل الكريم اللائق والإنصاف فى الأجور، وتحقيق العدالة فى توزيع الثروة الوطنية، وتحقيق التنمية المتوازنة وحماية البيئة، وتأمين الخدمات الأساسية لكل مواطن: السكن والتنظيم العمرانى، ومياه الشرب النظيفة، والصرف الصحى، والكهرباء، والهاتف والإنترنت، والطرق والنقل العام، والتعليم والتأهيل النوعيين، والتأمين الصحى الشامل ومعاشات التقاعد وتعويضات البطالة، بأسعار تتناسب مع مستويات المعيشة.

• • •

اللافت هو غياب مفاهيم العدالة الاجتماعيّة ومكافحة الفقر والمال العام والصالح العام فى نص بيان «مؤتمر الحوار الوطنى السورى»، فى حين تشكّل هذه المفاهيم دورًا أساسيًّا للدولة وفى ظلّ الحاجة الماسّة لترسيخها اليوم، خاصّة بعد الانتهاكات الكبيرة التى انتهجتها السلطة السابقة حيالها. واللافت أيضًا فى نص البيان، كما على أرض واقع اليوم، تحميل «مؤسسات المجتمع المدنى» مسئوليات كبيرة فى دعم المجتمع وإعادة الإعمار والتنمية.

بالمقابل، تشهد ما تسمى «المنظمات غير الحكومية» (NGOs) واقعًا متناقضًا. فتلك التى كانت تعمل فى مناطق الشمال الخارجة عن سلطة الدولة وحملت طويلًا عبء إعاشة ودعم معيشة الأشخاص النازحين فى المخيمات تناقصت تمويلاتها أصلًا منذ سنتين. لكنها انتشرت اليوم فى مناطق مختلفة، ما أدى إلى تراجع فى أحوال أولئك النازحين المعيشية، ودون أن تستطيع تلبية احتياجات الإغاثة والمعيشة على نطاق سورى واسع. ومنظمات الأمم المتحدة التى كان يعمل بعضها لصالحها أيضًا شهدت نفس التناقص فى تمويل قبل أن يضحى التناقص أكثر حدة مع قطع الإدارة الأمريكية لمساعداتها الخارجية، وهى كانت أكبر المساهمين فى سوريا. ويشمل ذلك برنامج الغذاء العالمى WFP الذى كان يؤمن الحصص الغذائية التى كانت المنظمات السورية توزعها، وكذلك كثيرًا من «المنظمات غير الحكومية الدولية» (INGO). وحدها لم تتأثر كثيرًا المنظمات التابعة لدول معينة، كتركيا وقطر، التى وسعت نشاطاتها رغم أنها لم تكن تشكل سوى قدر محدود من الإغاثة والإعانة فى الشمال.

النموذج الذى كان قائمًا فى إدلب هو الذى جرى تعميمه اليوم، بما فيه من خلال بيان «مؤتمر الحوار الوطنى السورى». الدولة تهتم بقضايا الأمن والاستثمار، بينما تحمل المنظمات غير الحكومية عبء المجتمع وإعادة الإعمار و«التنمية»! وقد كانت هذه المنظمات قد تعددت بشكل ملحوظ فى سوريا مع سياسة «رأسمالية الأقرباء والأصدقاء» التى أطلقها بشار الأسد وبعيد الغزو الأمريكى للعراق. وبلغ تسجيل المنظمات ذروته عام 2005 مع أكثر من 400 منظمة جديدة فى سنة واحدة، كى يزيد العدد الإجمالى للمنظّمات التى أنشئت منذ عام 2000 حتى 2020 أكثر من 2300 منظمة فى سوريا، مقارنة مع 7400 منظمة فى لبنان. ولكن توقِف الكثير من هذه المنظمات فى البلدين اليوم أعمالها وتسرّح موظفيها.

الأكثر غرابة فى هذه الظروف هو وضع مسئولية كبيرة على هذه المنظمات فى إعادة الإعمار. رغم بعض التجارب خلال الصراع لإسكان النازحين فى قرى نموذجية فى الشمال. إذ أن إعادة إعمار الدمار الكبير الذى أحدثه الصراع فى الحجر والبشر وفى البنى التحتية يتطلب نظرة شمولية على تغير التوزع السكانى الذى حصل وعلى كيفية إعادة تأهيل البنى التحتية لتأمين الاستدامة، هذا بالإضافة إلى إشكالات الأحياء غير النظامية التى كانت قد قامت قبل 2011 (فهل يجب إعادة إعمارها كما كانت؟) كما إشكالات الملكيات والتعديات عليها، وغير ذلك الكثير.

أى أن دور الدولة يبقى أساسيًا فى إعادة الإعمار، فى التخطيط الإقليمى على المستوى المركزى وفى التخطيط العمرانى على المستوى المحلى. علمًا بأن هناك سباقًا زمنيًا بين توجه المواطنين لإصلاح مساكنهم السابقة أو إعادة تشييدها وبين وضع هذا التخطيط والحصول على توافق اجتماعى حوله وحل النزاعات التى يُمكن أن تنشب بصدد ذلك. فتطور الواقع يُمكن أن يسبق أى رؤى مستقبلية.. حتى لو كانت مزدهرة على شاكلة «دبى»!

• • •

لقد صبر الشعب السورى كثيرًا، وتحملوا الكثير من المعاناة. والجميع حول العالم يعترف أنهم يقيّمون العمل لكسب الرزق مهما كانت مشقته. وهم بالطبيعة ينتظمون فى جمعيات أهلية لمعالجة مختلف الإشكاليات الاجتماعية والصحية. لكنهم يحتاجون بعد كل هذا الصبر دولة راعية ترسم طريقًا لنهضتهم، وتحمى الفئات الأضعف بقوانين وإجراءات. فدولة الرعاية هى التى تحمى المجتمع ليس فقط من الاستغلال الداخلى، بل أيضًا من ألاعيب النفوذ الخارجى.

إن إسرائيل عرضت مؤخرًا أن يستطيع سوريون العمل فى هضبة الجولان السورية التى يحتلونها. وبالطبع جاءت ردة الفعل الوطنية كبيرة تستنكر هذا العرض الاستفزازى. لكن إذا بقيت الأحوال على ما هى عليه، ومع العقوبات، والتخلى عن الرعاية، كيف يُمكن حقا منع الناس من محاولة كسب الرزق وتأمين سبل للعيش إذ ما تعذرت السبل الأخرى. 

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات