علاقة الثورة بالدولة هى قضية شائكة فى تاريخ كل الثورات. كل منهما يحتاج الآخر فى لحظات التغيير الثورى، ولكن لكل منهما رؤى وحسابات متعارضة، مما يفضى بكل منهما بداية إلى الضيق بالآخر، وقد ينتهى الأمر بمحاولة واحد منهما التخلص من الآخر، وهو أمر ليس سهلا، ومن ثم تبقى العلاقة بينهما متأزمة، إلى أن يتمكنا من التعايش معا، وهذا لا يحدث إلا إذا قدما تنازلات متبادلة.
العلاقة المتأزمة فى تاريخ
كل الثورات
انظر إلى تاريخ كل ثورة لتجد ما يدل على معالم هذه العلاقة المتأزمة، لم يكتف الثوار الفرنسيون بتحطيم دولة عائلة البوربون التى حكمت فرنسا حتى قيام الثورة فى سنة 1789، ولكنهم أقاموا دولة جديدة مكانها بجيشها وشرطتها وقوانينها ومؤسساتها، وعلى الرغم من أن الثوار البلاشفة فى روسيا قد تولوا السلطة فى أكتوبر 1917، إلا أن لينين لم يستطع تماما الاستغناء عن عناصر بيروقراطية دولة القياصرة واستعان بالقيادات الوسطى والصغرى فيها بعد أن وضع على رأس أجهزة الدولة قيادات شيوعية، وحتى فى الصين الشعبية وبعد قرابة عقدين من دخول قوات جيش التحرير الشعبى بقيادة ماوتسى تونج العاصمة بيجينج «بكين» ، شكى ماو نفسه من أن قيادات الدولة تتبع الطريق الرأسمالى، وندد بليو شاو تشى رئيس الدولة حينئذ، واستعدى عليه الشباب وجيش التحرير، وأطلق ثورته الثقافية، والتى لم تنجح فى إعادة الصين إلى الطريق المستقيم الذى تصوره، فتولى خصومه حتى فى سنواته الأخيرة مقاليد السلطة مرة أخرى وساروا بالصين بعد وفاته ليس على طريق الاشتراكية، ولكن على طريق المصالحة مع الرأسمالية. وفى مصر لم يتمكن قادة ثورة 1919، رغم توليهم الحكومة أكثر من مرة، من تطويع النواة الصلبة فى جهاز الدولة لرؤيتهم الديمقراطية، فقد استمرت سيطرة الملك فؤاد ومن بعده فاروق على الشرطة والجيش، وقيادات الإدارة العليا حتى أطاح بالملكية الضباط الأحرار فى ثورة يوليو، ومع ذلك اشتكى عبدالناصر، رغم جبروته، بعد ثلاثة عشر عاما من الثورة، من أن جهاز الدولة يتستر على ملكيات زراعية تتجاوز ما كان مسموحا به فى ظل قانون الإصلاح الزراعى، وعهد إلى لجنة أوكل رئاستها لعبدالحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة وبصحبة كبار المسئولين فى وزارة الداخلية والمخابرات الحربية والشرطة العسكرية، فى ذلك الوقت، وأن تتولى ما سمى بتصفية آثار الإقطاع، وهو ما لم يبد أن تلك اللجنة نجحت فيه.
الاعتماد المتبادل بين الثورة والدولة
الثورة تحتاج الدولة، كيف يمكن للثوار أن يترجموا رؤيتهم لمجتمع أفضل دون أن يستخدموا جهاز الدولة فى تحقيق التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التى يتطلعون إليها، بل ودون استخدام هذا الجهاز ذاته فى تأمين الثورة من أعدائها، وكيف يمكن فى حالة ثورة يناير تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية دون أن يقوم جهاز الدولة، وزارات الداخلية والعدل، المالية والتضامن والتعليم والصحة، والصناعة والزراعة والتنمية المحلية وغيرها بأدوار أساسية فى تحويل هذه الشعارات النبيلة إلى واقع. والدولة المصرية بحاجة شديدة للثورة لكى تثبت تمتعها بالشرعية فبعد سقوط رأس النظام السابق، لم يعد أمام أجهزة الدولة المصرية من سند لقبول المواطنين لسلطتها سوى أنها تحكم باسم الشرعية الثورية، فليس لشرعيتها أى أساس بخلاف ذلك.
ولكن لعلك تشاركنى عزيزى القارئ الإقرار بأن الشعور السائد بين الثوار هو أن حركة الدولة المصرية فى تنفيذ مطالبهم بطيئة للغاية، وأنها لم تتحرك لتنفيذ هذه المطالب إلا بعد تعبئة هائلة اقتضت تنظيم أكثر من مليونية، مرة لتغيير حكومة أحمد شفيق التى أمر بتشكيلها الرئيس السابق، ومرة أخرى للإسراع بالتحقيق ومحاكمة قيادات النظام السابق، وحتى عندما تحرك جهاز الدولة لتغيير المحافظين، فإنه جاء بمن كان يمكن أن يعينهم الرئيس السابق، وهم كانوا ممن خدموا حكمه فى مجالات مختلفة، كما أن تطور المجتمع المصرى عقب الثورة، هو فى العديد من المجالات، أبعد ما يكون عن حلم المجتمع المدنى المتقدم الذى لا يعرف التمييز بين مواطنيه لا على أساس الدين ولا على أساس النوع، وها هم الأقباط تتعرض كنائسهم للحرق، وتهدد مظاهرات بعض المسلمين كاتدرائيتهم، ويتعرض بعضهم للاعتداء الذى يكاد يودى بالحياة، ويعترض مواطنون على تولى قبطى محافظتهم، وفيما يتعلق بالمرأة يعد البعض لشن حملة ضد قوانين تمنحها حقوقا مشروعة، ويعلنون كفرهم بالديمقراطية إذا كانت هى التى تصون هذه الحقوق. ويقف جهاز الدولة صامتا كأبى الهول أمام هذه التعديات، بل جاء فى الصحف أن رئيس الوزراء سيذهب لقنا لمشاركة مواطنيها الغاضبين على المحافظ القبطى ما سموه مليونية الكرامة. وإن تأجلت الزيارة بعد ذلك.
خاض كاتب هذه السطور فى تفصيل أسباب المسافة التى تفصل ثوار يناير عن جهاز الدولة وعلى رأسه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وسوف نستبعد احتمال تعارض المصالح بينهما، ونكتفى هنا بترجيح أن رؤية كل من الفريقين لدوره لا تلتقى بالضرورة مع رؤية الفريق الآخر. لقد جاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليدير مرحلة انتقالية لا لكى يقود ثورة، وهو يديرها بنفس الأسلوب الذى تعود عليه جهاز الدولة المصرية الحديثة منذ عشرات السنين، فلا يتوقع أن يستشير المواطنين فيما يتخذ من قرارات، ولا ينتظر من المواطنين سوى الاستسلام لما يقرر، ولا يتصور أن يحاسبه أحد على ما يفعل، لأنه يعتقد مخلصا أنه يعرف مصالح الوطن أفضل من كل هؤلاء المواطنين. أما الثوار والملايين التى خرجت فى أيام يناير وفبراير الثمانية عشرة المجيدة فرؤيتهم لما ينبغى أن تكون عليه مصر الآن أوسع بكثير من مجرد الانتظار لانتخابات تشريعية ودستور لا يعرف أحد الآن ما الذى سيتمخض عنهما، هم يريدون أن نبدأ بالفعل فى رسم الخطوات التمهيدية لمجتمع الحرية والكرامة والعدالة، ولا يرون فيما يتخذ من إجراءات ما يقربنا من ذلك الحلم.
هل يمكن بناء مصر الجديدة على دفعات؟
سوف يسعد كاتب هذه السطور، ومعه كثيرون من القراء لو خرج علينا المجلس الأعلى للقوات المسلحة برؤية واضحة عن نوع المجتمع الذى ينشده بعد الفترة الانتقالية، وخصوصا موقفه من موقع الدين فى هذا المجتمع، بعيدا بطبيعة الحال عن التأكيد على بقاء المادة الثانية من الدستور بكل الضجة التى أثيرت حولها، وعلى قلة ما أدخلته من تغيير تشريعى، وبدون المساس بحرية العقيدة والتعبير لكل المواطنين، وأن يثبت ربما من خلال حركة محافظين جديدة، ولا أظن أن المسئول عنها هو فقط وزير التنمية المحلية أو حتى رئيس الوزراء. إن معاييره فى اختيار المحافظين تختلف عما تعودناه فى ظل الرئيس السابق.
إذا ما حدث ذلك فسنكون جميعا، أو هؤلاء الذين ناصروا الثورة، سعداء، إلى اقصى حد، وخصوصا عندما يقترن ذلك باتباع أسلوب جديد فى صنع القرار يقوم على التشاور والمشاركة.
ولكن إذا لم يحدث ذلك فدعونا لا نركن لليأس، ونستسلم للإحساس بأن الانتخابات التشريعية القادمة سوف تضع من لا يؤمنون بالدولة المدنية على قمة السلطة فى مصر، ولنسع من خلال العمل الجماعى الديمقراطى والسلمى إلى ترجمة مثل الثورة إلى واقع، بالسعى لإقرار قوانين تسمح بانتخاب المحافظين ورؤساء المدن والعمد فى القرى وبتعميم مبدأ الانتخاب فى كل المؤسسات الجامعية والإعلامية، وباتباع اسلوب المفاوضة الجماعية بين العاملين وإدارات مؤسساتهم فى تسوية منازعات العمل، ولنجتهد كل فى موقعه لتشكيل واقع جديد يقترب بنا من حلم الدولة المدنية التى تحترم الحقوق الأساسية للمواطنين. دعونا لا نركن لليأس، وإنما ننطلق لتشييد بنيان الوطن الذى نفخر به، حجرا بعد حجر، إذا لم نكن نستطيع إكماله بسرعة الثورة.