نشر موقع Consortium News مقالا بتاريخ 21 أبريل للكاتب مورين بيكارد تناول فيه اكتشافات حديثة فى حادثة تحطم الطائرة التى كان يقلها الأمين العام للأمم المتحدة داج همرشولد و15 شخصا آخر، والتى توضح تورط مجموعة مرتزقة فرنسيون فى تدبير الحادث الذى أودى بحياته، مما يثير التساؤل حول معرفة الحكومة الفرنسية بشأن المؤامرة والتقاعس فى تحذير الأمم المتحدة... نعرض منه ما يلى.
بعد ستة عقود من لغز وفاة الأمين العام للأمم المتحدة داج همرشولد و15 شخصا آخر فى حادث تحطم طائرة فى وسط إفريقيا، قد يؤدى اكتشاف جديد فى أرشيفات الحكومة الفرنسية إلى الاقتراب من الحقيقة وحل أحد ألغاز الحرب الباردة؛ من قتل هامرشولد؟
بعد بحث استمر لسنوات، تم التوصل إلى اكتشاف مهم فى نوفمبر 2021 حول الواقعة. بدأ الأمر باكتشاف مجلد أصفر وضع حرف «الهاء» على غلافه وكتب عليه «سرى للغاية». أشار حرف «الهاء» إلى همرشولد، والملف تابع لجهاز المخابرات الفرنسى بتاريخ يوليو 1961، وكان موجها إلى رئيس الوزراء الفرنسى ميشيل ديبرى. تضمن الملف مذكرة إعدام مكتوبة ضد الأمين العام للأمم المتحدة داج همرشولد، صادرة عن «لجنة تنفيذية» غامضة والتى «اجتمعت لفحص سلوك السيد همرشولد فى تونس»، حين حاصرت الميليشيات التونسية القوات الفرنسية فى مدينة بنزرت الساحلية وحاول الأمين العام التدخل فى 26 يوليو 1961 للتوسط. خلصت المذكرة إلى أن الوقت حان لإنهاء تطفله الضار فى أقرب وقت ممكن. حيث إن سلوك همرشولد فى تونس لم يكن الإزعاج الوحيد، فقراره بالتعاون مع روسيا فى الكونغو كانت أزمة أخرى واجهتها الأمم المتحدة.
لم تحو المذكرة على توقيع، فقط ثلاثة أحرف لاختصار سيئ السمعة OAS (المنظمة السرية المسلحة)؛ وهى جماعة فرنسية شبه عسكرية منشقة يمينية متطرفة تعارض استقلال الجزائر ونظام شارل ديجول.
حتى أن المنظمة السرية، التى كانت تعمل فى الغالب من عام 1961 إلى عام 1962، حاولت قتل الرئيس شارل ديجول فى 22 أغسطس 1962، وقتلت الحركة 1700 إلى 2200 شخص، معظمهم من المدنيين الفرنسيين والجزائريين والجنود الفرنسيين وضباط الشرطة والسياسيين والمدنيين.
يشير نص الرسالة إلى أزمة بنزرت وتدخل همرشولد فى تونس، مما يضع الرسالة فى وقت ما بين 26 و31 يوليو 1961، حيث لا يمكن قراءة التاريخ بالكامل على الظرف. لا يربط تحقيق أجرته الحكومة الفرنسية عام 2019 فى سبب وفاة همرشولد المنظمة المسلحة السرية بتحطم الطائرة التى كانت تقل الأمين العام عام 1961.
لا يبدو أن الأمم المتحدة اطلعت على الرسالة، نظرا لعدم وجود آثار لها فى أرشيف الأمم المتحدة أو فى ملاحظات بريان أوركهارت الشخصية على همرشولد، بصفته وكيل الأمين العام السابق للأمم المتحدة للشئون السياسية الخاصة.
• • •
بعد ستة أسابيع من التاريخ التقريبى للرسالة، مات همرشولد، فى 18 سبتمبر 1961، فى حادث تحطم طائرة بالقرب من ندولا، شمال زامبيا، أثناء محاولاته وقف الأعمال العدائية فى كاتانجا، وهى مقاطعة انفصلت عن الكونغو.
أعادت الأمم المتحدة فتح تحقيق فى عام 2016 من قبل الأمين العام آنذاك بان كى مون، بعد إفادات تم الكشف عنها حديثا لشهود عيان أفارقة جددت الشكوك حول وجود طائرة أخرى فى الجو فى تلك الليلة.
بعد ست سنوات، من المتوقع أن يسلم محمد شاندى عثمان، رئيس القضاء التنزانى السابق الذى يقود التحقيق المستقل للأمم المتحدة بشأن وفاة همرشولد، استنتاجاته إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش فى سبتمبر 2022.
منذ عام 2016، كان عثمان يطلب بلا كلل من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة «إجراء مراجعة شاملة لسجلاتهم ومحفوظاتهم، لا سيما من وكالات استخباراتهم»، ويبذل قصارى جهده «لتحديد الظروف الدقيقة للحادث»، وفقا لتقرير عثمان الأخير. ترددت العديد من الدول الكبرى بشكل علنى فى تقديم تعاونها، وبالأخص الولايات المتحدة وبريطانيا وجنوب أفريقيا، وبدرجة أقل فرنسا.
فى عام 2018، عينت الحكومة الفرنسية المؤرخ موريس فايسى، للرد على طلب عثمان. كانت النتيجة مخيبة للآمال. أكد تقرير فايسى، الذى صدر سرا فى عام 2019، أنه بعد بحث شامل شابته عقبات بيروقراطية وتنظيمية، لم يكن هناك أى وثيقة مهمة يمكن العثور عليها من قبل الفرنسيين فيما يتعلق بوفاة همرشولد.
• • •
السبب الذى جعل المنظمة السرية المسلحة تهدد الأمين العام قد يرجع إلى عدة نقاط: فقد كان الأمين العام مكروها داخل الدوائر العسكرية الفرنسية لتدخله فى أزمة السويس فى عام 1956 عندما حاول التوسط لوقف إطلاق النار؛ ولمحاولاته المتكررة عرض قضية الحرب الجزائرية على مجلس الأمن؛ ولتدخله المثير للجدل فى بنزرت، حيث حاول مرة أخرى التوسط لوقف إطلاق النار ولكن دون جدوى. إلا أن المنظمة لم تعلن مسئوليتها عن الحادث.
فى باريس، عُرفت المجموعة باسم «OAS Metro» وكان يقودها قائد الفيلق الأجنبى الهارب، بيير سيرجنت، تحت قيادة الجنرال راؤول سالان من على بعد، الذى كان مختبئا فى الجزائر. يقول المؤرخ الفرنسى ريمى كوفر «إذا كانت الرسالة من المنظمة السرية المسلحة، فلا يمكن أن يقوم بذلك إلا بيير سيرجنت نفسه، لأن المنظمة كانت عسكرية للغاية، بالمعنى الهرمى، ولن يجرؤ أى مرءوس على كتابة مثل هذه الرسالة».
خبراء آخرون، مثل أوليفييه دارد، مؤرخ فرنسى فى جامعة باريس السوربون، وخبير فى تاريخ المنظمة السرية المسلحة، يشكون فى أن يكون سيرجنت قد صاغ الخطاب؛ لأن الرسالة خلت من اللغة القاسية التى كانت المنظمة تميل لاستخدامها.
حتى الآن، لم يذكر أى وجود للمنظمة السرية المسلحة فى كاتانجا. ومع ذلك، فإن مجموعة من الوثائق التى تم العثور عليها فى الأرشيفات الوطنية السويدية والفرنسية والبلجيكية التى تم رفع السرية عنها تعطى مصداقية لمؤامرة المنظمة السرية المسلحة ضد الأمين العام.
• • •
تعاطف ضباط فرنسيون فى كاتانجا مع المنظمة السرية، بما فى ذلك إيف دى لا بوردونيه، جندى فى سلاح المظلات وخبير فى الحرب النفسية، وليون إيجى، مشغل راديو سرى قام بتهديد ضابط نرويجى بسكين؛ الضابط النرويجى هو بيورن إيج، رئيس فرع المعلومات العسكرية للأمم المتحدة فى كاتانجا وكان مسئولا عن تعقب وطرد جميع المرتزقة الأجانب الذين استأجرهم النظام الانفصالى. أعلنته صحيفة لوموند أنه عضو بالمنظمة السرية المسلحة فى البرتغال.
وصف ليون إيجى كاتانجا بأنها «آخر معقل لنفوذ الرجل الأبيض فى إفريقيا»، وأكد أن «كل رجل أبيض فى الأمم المتحدة خائن لعرقه». فى 20 سبتمبر 1961، كتب إيجيه إلى مسئول كاتانجى، فى رسالة عثر عليها فى الأرشيف البلجيكى «لقد مات.. السلام على روحه وبئس المصير.. إنه يتحمل مسئولية جسيمة فى هذه المغامرة المريرة والحزينة».
عمل الرجل الثالث، إدجارد توبوت توميه، فى القوات الخاصة البريطانية الجوية ومع القوات الفرنسية، وقضى فترة قصيرة فى كاتانجا. وذكر المؤرخ الفرنسى جورج فلورى أن توبوت توميه كان عضوا فى المظمة السرية. قبل مغادرته لكاتانجا، سُمِع توبوت توميه يتفاخر قائلا «الأمم المتحدة.. ليس هناك مشكلة.. عشرون كيلوجراما من البلاستيك كفيلة لأعتنى بها»... كانت متفجرات البلاستيك هى السلاح المفضل لعملاء المنظمة السرية.
فى 30 أغسطس 1961، حذر أوبراين، الذى كان أيضا دبلوماسيا وسياسيا أيرلنديا سابقا وكاتبا، رؤساءه فى الكونغو ومدينة نيويورك من أن نائبه، ميشيل تومبلين، قد تعرض للتهديد من قبل أعضاء المنظمة السرية المسلحة. اكتشفت الأمم المتحدة فى 6 سبتمبر أن عصابة مسلحة بقيادة ضابط المرتزقة الفرنسى روجر فولكس، الذى كان الرئيس المباشر لسيرجنت فى الفيلق الأجنبى، كانت تخطط «لاستخدام القنابل البلاستيكية ضد مبانى الأمم المتحدة» ووضعت قائمة «تصفية» ضد القادة المدنيين والعسكريين للأمم المتحدة، وفقا لوثيقة أخرى مؤرشفة من الأمم المتحدة.
• • •
عندما تحطمت الطائرة التى كانت تقل همرشولد و15 شخصا آخر فى 18 سبتمبر، قال شاهد من جنوب أفريقيا، ويدعى ورين ماست إنجل، إنه رأى مجموعة من المرتزقة البيض فى موقع الحادث يرتدون ملابس قتالية، وأمروه بمغادرة الموقع تحت تهديد السلاح. عندما عرض على الشاهد ورين ماست إنجل عدة صور من ملابس التمويه التى يرتديها الجنود، أشار إلى واحدة تشبه الملابس التى يرتديها ضباط المظلات الفرنسيون فى الجزائر. وهذا ما أكده شاهد آخر والذى تعرف على نفس النوع من الزى الذى تركته مجموعة من المرتزقة بالقرب من موقع التحطيم. فى العقود التى تلت الحادثة، أشارت سلسلة من الشهادات أيضا إلى مجموعة صغيرة من المرتزقة الفرنسيين تم رصدهم بالقرب من موقع الحادث.
كتب جورج إيفان سميث، المدير السابق للمعلومات العامة بالأمم المتحدة وأحد المقربين من همرشولد، إلى كونور كروز أوبراين، فى 5 أبريل 1962 فى رسالة تم العثور عليها فى مكتبة بودليان بجامعة أكسفورد: «أنا مقتنع من وجود رابط مباشر للمنظمة السرية المسلحة بالحادث». فى ديسمبر 1962، ذكرت صحيفة The Scotsman أن «أوبراين لا يزال يعتقد أنه من المحتمل أن يكون همرشولد قد قتل على يد رجال فرنسيين من المنظمة السرية المسلحة».
هل يمكن لهذه المجموعة أن تكون هى من أصدرت أمر الإعدام؟ للإجابة على هذا السؤال، يجب على تحقيق الأمم المتحدة بقيادة عثمان ــ الذى من المرجح أن يختتم عمله بحلول سبتمبر ــ توضيح نقطتين أولا وقبل كل شىء: أولا، إذا كان الأمر بالإعدام الأصلى ما يزال موجودا، فأين هو؟ ثانيا، هل أخطرت الحكومة الفرنسية فى عام 1961 الأمم المتحدة وهمرشولد بهذا الخطر الذى يهدد حياته؟
يستحق أفراد أسر 16 شخصا قُتلوا فى هذا الحادث معرفة الحقيقة. عندها فقط ستقترب الأمم المتحدة من حل أحد ألغاز الحرب الباردة: كيف مات داج همرشولد؟
تحرير وترجمة: ابتهال أحمد عبدالغنى
النص الأصلي