يشهد معرض الكاريكاتير المقام حاليا بقاعة أوبونتو بالزمالك لحرية الصحافة اكثر من كل المقالات التى كتبت دفاعا عن حريتها طوال تاريخها، وليس ابلغ من لوحة فنان الكاريكاتير الشهير حجازى التى رسمها فى الثمانينيات فى تلخيص حال المهنة التى يضجر أصحابها بشكاوى كثيرة.
فى اللوحة تظهر سيدة تمسح البلاط وفوقها عبارة بلاط صاحبة الجلالة والى جوارها يسير صحفيان يقول احدهما للآخر (ما راحت الجلالة ويتمسح البلاط).
وفى العالم كله وليس فى مصر فقط يعانى رسامو الكاريكاتير من تراجع المساحات التى كانت لهم فى الماضى ويتجه اغلبهم لرسوم الأطفال أو تعبئة الصفحات بنكت لا معنى لها.
لذلك فإن المعرض الذى تحمس له الدكتور احمد الضبع هو مناسبة استثنائية لأن قاعة لها سمعتها الحسنة تبنت هذه المبادرة وكانت قد سبقتها قبل سنوات قاعة مغربى باحتضانها معرضا للفنان حجازى وآخر لسانتوس وكلها تجارب تنتمى لماضٍ مزدهر
لكن المعرض الجديد اتسم بالشمول والتنوع والبحث التاريخى وبدا كفضاء استماع لصرخات فنانى الجيل الحالى الذين لا يجدون فرصا لعمل حقيقى داخل الصحف التى لم تعد تنشر الا الرسوم المدرسية ذات الطابع التعبوى التى ترخص من قيمة هذا الفن الجميل وتبتذل معناه.
يقول المعرض بطريقته الفذة ان ما عاشته المهنة كان جميلا بما يكفى لصناعة تاريخ من البهجة والألم صنعه من اسماه بهجت عثمان (رفاق السلاح).
وهذه الخلاصة التى أرادها منظمه الفنان سمير عبدالغنى الذى بذل جهدا فائقا لجمع لوحات تغطى ما يقرب من مائة عام من فن ارتبط ظهوره وتطوره بالمد الثورى الذى خلقته ثورة ١٩١٩ ويرتبط انحساره اليوم بتحولات فى طبيعة الوسيط وتحولات سياسية اعقد من يحل عقدتها فنان واحد.
ونعرف فى مجالات الادب وبعض فروع الفن الاسماء التى صنعت المتخيل الوطنى لثورة 19 بالمعنى الذى شرحه بندكت أندرسون فى كتابه الجماعات المتخيلة حيث تضافرت أدوات للقول والتعبير الفنى صاغت سردية متماسكة عن هذا الحدث الكبير.
يقول المعرض انه من الواجب علينا اعادة كتابة التاريخ لينصف من رسموا المسار الأول للثورة عبر الكاريكاتير الذى منح الصحافة طابعها الجماهيرى فى بلد كان يعانى اغلب سكانه من الامية.
وتظهر فى المعرض رسوم البدايات التى قدمها الرسام سانتوس الذى كشف يحيى حقى فى تأريخه للكاريكاتير الدور الذى لعبه فى تأكيد حضور هذا الفن على النحو الذى جعل النحات الفذ محمود مختار يفكر فى خوض التجربة ويظهر المعرض واحدة من لوحاته التى تمثل اعادة اكتشاف لدوره فى هذا المجال وهو دور أشار اليه الراحل محيى الدين اللباد فى كتابه العمدة (نظر) لكنه لم يأخد حقه من البحث فيما كتب عن مختار أو عن تاريخ الكاريكاتير وهو جهد لا يزال ضئيلا.
ومن هنا تأتى أهمية المعرض الذى يحمل رسائل ضمنية كثيرة وأهمها ان أى تقدم للأمام مرتبط بقفزة فى حرية التعبير وان هذه القفزة يصنعها رافعو رايات الخيال وصناع المتخيل الوطنى المعبر عن طبيعة اللحظة التاريخية وهؤلاء يخلدون دائما بفضل قدرتهم على التحايل بالفن واختراع الأمل والتشبث به ففى ذروة الأزمات المتوالية التى عاشتها ثورة يوليو فى بداياتها مع الغرب كان رسامو الكاريكاتير فى طليعة المقاومة وعندما بدأت الثورة تظهر انحيازها للعدالة الاجتماعية وجدت صلاح جاهين وصلاح الليثى وحجازى ونبيل السلمى وبهجت عثمان واللباد وكانوا أنصارا لها ولخطواتها التقدمية وكانوا الأكثر إخلاصا لمشروعها بعد الانقلاب المضاد عليه فى عصر السادات لكنهم أيضا كانوا اول من واجه استبداد نظام عبدالناصر وحذروا من الهزيمة قبل ان تأتى ويعلمنا التاريخ ان بعض هؤلاء منعوا وشردوا لكن أعمالهم حية لا تزال وان أصابعهم كما رسم حجازى (صاحية وبتلعب).