فى نظام سياسى وحزبى صارم يقوم على سيطرة الحزبين الديمقراطى والجمهورى على الحياة السياسية مع سيطرتهما الكاملة على الكونجرس، قد لا تعد ظاهرة مرشحى الأحزاب الثالثة ظاهرة مهمة. إلا أن وصول حالة الاستقطاب السياسى لدرجة من الحدة والشدة أصبح معها من النادر حدوث أى توافق أو تناغم حول السياسات العامة دفع البعض للتساؤل.. ما العمل؟ ودفع ذلك كثير من المحللين إلى تقديم اجتهادات لتفسير ظاهرة «الحزب الثالث»، وهل لها أى تواجد؟ ولماذا لا تقدر على إحداث اختراق وتغيير النظامين الحزبى والانتخابى القائمين خاصة مع إظهار استطلاعات الرأى أن مرشحى الرئاسة الأمريكية الرئيسيين هيلارى كلينتون ودونالد ترامب يتمتعان بأقل نسبة شعبية بين أى من مرشحى الرئاسة فى التاريخ الأمريكى الحديث. وأظهر استطلاع للرأى أجرته شبكة «إن بى سى» وصحيفة «وول ستريت جورنال» أخيرا أن 65% من الناخبين عبروا عن آراء سلبية تجاه كلينتون وترامب.
لكن هل يخلق ذلك أى فرصة لمرشح ثالث من حزب آخر غير الجمهورى والديمقراطى للسعى الجدى لتبوء منصب الرئاسية، أو حتى الفوز بنسبة معقولة من أصوات الأمريكيين؟ الإجابة ببساطة.. «لا». وتعتبر احتمالات انتخاب أى مرشح آخر ضعيفة جدا حيث يهيمن الحزبان الرئيسيان على الحياة السياسية الأمريكية، ولم يحدث أن نجح رئيس من حزب ثالث فى تاريخها الحديث أو حتى لعب دورا مؤثرا باستثناء حالة المرشح روس بيرو عام 1992 حين حصل على 19% من الأصوات.
***
ومع ذلك تشهد انتخابات هذا العام وجود عدة مرشحين إضافة لترامب وكلينتون. ومن أهم هؤلاء المرشحين ممثلة حزب الخضر Green السيدة جيل شتين، وممثل حزب الأحرار Libertarian جارى جونسون. وسبق للمرشحين الاثنين المشاركة فى انتخابات 2012، وحصلت مرشحة حزب الخضر على 470 ألف صوت، أى ما يُعادل 0.36% من الأصوات، وحصل ممثل حزب الأحرار على 1.3 مليون صوت، أى ما يعادل 1% من الأصوات. وتركز أجندة حزب الخضر على زيادة الجهود من أجل حل المشكلة البيئية والاهتمام بالهواء والأرض، والحفاظ على مصادر مياه نظيفة بالإضافة لتشجيع الطعام الصحى. وتدعم المرشحة زيادة وتعزيز المواصلات العامة وسكك الحديد بهدف تقليل عدد السيارات وإنشاء شوارع خاصة براكبى الدراجات الهوائية والمشاة فى المدن. أما حزب الأحرار فيركز على أن كل الأفراد لابد وأن يكونوا أحرارا فى ممارساتهم بعيدا عن سطوة الحكومة، وينادى الحزب بالحرية والرفاهة، وإعادة بناء النظام السياسى لينتخب المواطنون من ينادون بالحريات فى جميع الوظائف العامة، وأخذ البلاد نحو اتجاه الحرية. ويرفع الحزب شعار (حكومة أصغر، وضرائب أقل، وحرية أكثر).
ويميز مرشحو الأحزاب الثالثة القدرة على التغريد خارج الخطاب السياسى الأمريكى التقليدى حيث توجد مساحة واسعة للحديث المباشر والصريح. ويستغل مرشحو الأحزاب الثالثة شعور نسبة مهمة من المواطنين الأمريكيين بالاستبعاد والعزلة السياسية وعدم الثقة فى النظام السياسى ولا فى رموزه السياسية. لكن فى الوقت ذاته يواجه مرشحو الأحزاب الثالثة صعوبات كبيرة فى النفاذ إلى وسائل الإعلام أثناء الحملات الانتخابية، فما لم يكن المرشح ثريا بحيث يستخدم ثروته الخاصة فى شراء المساحة الإعلامية اللازمة للتعريف به وعرض برنامجه الانتخابى (حالة روس بيرو) أو أن يكون مشهورا لدرجة تسمح له باستخدام نفوذه وعلاقاته الشخصية لدى الإعلام، يتم تجاهلهم تماما من جانب الإعلام، ويبقون دائما فى حلقة مفرغة دائرة لا توصل لأى نتيجة، فعدم تغطيتهم إعلاميا يؤدى إلى ضعف قدرتهم على المنافسة. ولا يسمح لمرشحى الأحزاب الثالثة المشاركة فى المناظرات التليفزيونية بسبب عدم اجتيازهم للشروط والقواعد المنظمة لتلك المناظرات، وهى قواعد وشروط يضعها ممولو تلك المناظرات والمشرفون عليها من الحزبين. وطبيعيا ألا يريد الحزبان الكبيران مشاركة أى منافس آخر فى المناظرات، ويهدد مرشحو الحزبين الرئيسيون بالانسحاب من المناظرات الانتخابية إذا سمح لمرشحى الأحزاب الثالثة بالمشاركة فيها. من هنا لا استغراب من تجاهل وسائل الاعلام الرئيسية حيث يعتقدون أنهم لن يحققوا الفوز فى أية انتخابات.
***
وفى ظل حالة الاستقطاب السياسى الراهنة بين الحزبين الجمهورى والديمقراطى، وتزايد حالة عدم الرضا الشعبى على العملية السياسية والمرشحين، يصبح التصويت لصالح مرشحى الحزب الثالث تصويا احتجاجيا. إلا أن هذا التصويت قد يرجح فرص نجاح حزب على آخر، وهو ما يعرف بـ «نظرية المفسد» spoiler theory، إذ يصبح مثلا التصويت لحزب الأحرار مضرا للحزب الجمهورى، والتصويت لحزب الخضر مضرا للحزب الديمقراطى. فعلى سبيل المثال من يصوتون غالبا لحزب الخضر يعدون من الأنصار التاريخيين للحزب الديمقراطى ويؤثر هذا بدوره على نسبة ما يحصل عليه الحزب الديمقراطى، وهو ما قد يعد عاملا مؤثرا حال تقارب نسب الأصوات بين المرشحين الرئيسيين. وتدل خبرة عام 2000 حين فاز جورج بوش على آل جور بالبيت الأبيض متفوقا فقط بمئات الأصوات فى ولاية فلوريدا أن الأحزاب الثالثة لها دور حاسم فى بعض الانتخابات. ونظريا يسمح ذلك لهذه الأحزاب بالقدرة على المناورة للتأثير فى برامج الأحزاب الأخرى، وهو ما لم يتحقق حتى هذه اللحظة.