استعرضنا في الحلقة السابقة كيف شهدت الشهور الأخيرة تبني بعض أكبر برامج البودكاست الأميركية خطابا شديد الانتقاد لإسرائيل ولعلاقة الولايات المتحدة بها، وسلطنا الضوء على ثلاثة برامج تحديدا (هي The Joe Rogan Experience لمقدمها الشهير جو روجان، وThis Past Weekend w/Theo Von للساخر ثيو فون، و The Tucker Carlson Show للمذيع اليميني تاكر كارلسون) يمثل خطابها تحديا سافرا للسردية المتعاطفة مع تل أبيب والتي طالما هيمنت على المجال العام في أميركا.
لكن ما أهمية برامج البودكاست أصلا؟
أهميتها تكمن في أنها تزداد شعبية بينما تتراجع وسائل الإعلام التقليدية.
فالأخيرة تعاني في السنوات الأخيرة من عزوف الجمهور عنها بشكل مقلق، وذلك لعدة أسباب لا مجال للاستفاضة فيها هنا ولكن تكفي الإشارة إلى عاملين مهمين:
- سأم الجمهور من الأنماط المعتادة للصحافة السياسية
- وتراجع الثقة بشكل عام في المؤسسات الصحفية وفي ادعائها الحياد
في المقابل فإن مقدمو برامج البودكاست يعبرون في الأغلب عن آرائهم وميولهم بشكل صريح، ويتجنبون الأشكال الصحفية الصرفة (والجافة أحيانا) للأخبار السياسية، فيخلطون الرأي بالمعلومة والجد بالترفيه والأمور العامة بالتجارب الشخصية... وكلها سمات تمثل عوامل جذب لجمهور ينفذ صبره سريعا إذا لم يجد المحتوى جذابا، وعودته مواقع التواصل الاجتماعي على الاشتباك المستمر مع الآراء والمواقف والشخصيات.
وبغض النظر عن تقييمنا للجودة الصحفية لتلك البرامج وما إذا كانت تقدم ما يستحق الاحتفاء أو التوجس، فالمحصلة في النهاية أنها صارت مصدرا متناميا للمعلومات والأخبار.
وقد تنبه المراقبون مؤخرا إلى قدرة تلك البرامج (لا سيما غير السياسية منها مثل برنامجي روجان وثيو فون) على التأثير السياسي، فخلال حملة الانتخابات الرئاسية انطلق ترامب ليحل ضيفا على عدد من تلك البرامج، فحقق مشاهدات بالملايين ساعدته بشكل حاسم - كما يرى كثير من المحللين - في الفوز على كاميلا هاريس التي تعالت بشكل عام عليها. ومنذ ذلك الوقت أصبحت برامج البودكاست وجهة رئيسية للساسة الأمريكيين، فهي لا تتمتع فقط في بعض الأحيان بعدد من المتابعين يفوق البرامج الحوارية الأكبر على شاشات التليفزيون، وإنما كذلك تنجح في الوصول إلى قطاعات غير مسيسة من الجمهور الأمريكي، وهؤلاء يلعبون دورا حاسما في ترجيح كفة منافس على آخر بوصفهم "الصوت المتأرجح".
والمثير في ظاهرة الخطاب اللاذع ضد إسرائيل الذي تتبناه البرامج الثلاثة (وغيرها)، ليس فقط إمكانية تأثيره على المتلقين الأميركيين وإنما أيضا ما تكشفه لنا هذه الظاهرة عن اتجاهات الرأي العام في الولايات المتحدة.
فهذه البرامج كغيرها من وسائل الإعلام، لا تؤثر فقط في جمهورها وإنما كذلك تتأثر به وتعكس ميوله، وبالتالي فإن تبنيها مثل هذا الخطاب تجاه إسرائيل، يشير إلى أن مشاعر الغضب لم تعد قاصرة على الدوائر المعتادة (العرب والمسلمون وبعض التيارات اليسارية)، وإنما صارت تحتل ركنا في بعض الدوائر المؤيدة لترامب (مقدمو البرامج الثلاثة دعموه في الانتخابات)، بل وعند قطاع من التيار الرئيسي غير المسيس الذي يمثل جمهور هذه البرامج.
هذا الأمر تؤكده استطلاعات الرأي مؤخرا ومن بينها استطلاع أجرته شبكة سي إن إن قبل شهرين وجد أن 23% فقط من الأميركيين يؤيدون العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة تأييدا كاملا.
وبالتأكيد لا يجب المبالغة في تصور اضمحلال دعم الأميركيين لإسرائيل، فاستطلاع الرأي ذاته يشير إلى أن 27% آخرين يؤيدون العمليات العسكرية في غزة تأييدا جزئيا، أي أنه وبعد نحو عامين من حرب إبادة تجري وقائعها في العلن لا يزال نصف الأمريكيين يؤيد الحرب تأييدا كاملا أو جزئيا.
لكن الاتجاه واضح... فقد انخفضت نسبة المؤيدين تأييدا كليا للحرب إلى نصف ما كانت عليه في أكتوبر 2023، والأدهى أنها انخفضت من 45% إلى 14% بين الناخبين المستقلين الذين لا ينتمون لأي من الحزبين، أي هؤلاء الذين يعكسون "الصوت المتأرجح".
....
في المقابل، ورغم ما طرأ من تحسن نسبي على تغطية معظم الصحف الكبرى والقنوات التلفزيونية للحرب على غزة مقارنة بالأسابيع التي لحقت 7 أكتوبر، فإنها ما تزال بعيدة كثيرا عن خطاب برامج البودكاست التي أشرنا لها.
فما سبب هذا الاختلاف؟
يمكن التكهن بعدة عوامل ربما تساعد في تفسيره... العامل الأول هو أن الكثير من برامج البودكاست الكبيرة لا تدعي الحياد كما أسلفنا، وبالتالي فهي تتحرر من قيد "التوازن" الذي تحرص معظم المؤسسات الصحفية الكبرى على إشهاره. ورغم ما لمبدأ التوازن من مزايا إذا تم تطبيقه باجتهاد – أي الاستناد إلى الحقائق والأدلة في منح رواية كل طرف الوزن النسبي الذي تستحقه – فإن صيغة رثة لممارسة "التوازن" هي المهيمنة على تغطية الحرب في وسائل الإعلام التقليدية... يردد المسؤولون الإسرائيليون الأكاذيب لتبرير جرائمهم في غزة، فتشعر المؤسسات الصحفية أن من واجبها نقل هذه الترهات بوصفها تصريحات صادرة عن جهات رسمية، ومع غياب أي وجود للصحفيين الأجانب على الأرض في غزة لتقييم هذه المزاعم، يبقى الباب مفتوحا للسردية الإسرائيلية.
تخلق هذه الممارسة انطباعا من "التكافؤ المضلل" بين الطرفين المعتدي والمعتدى عليه، ورغم أنها من الخطايا الصحفية الكلاسيكية المعروفة، إلا أن ذلك لا يمنع الكثير من الصحفيين في المؤسسات الكبرى من الاستمرار في ارتكابها، نتيجة الجهل أو الاستسهال أحيانا أو انحيازا لأهواء أو رضوخا للضغوط في أحيان أخرى.
تلك الضغوط هي العامل الثاني الذي يمكن أن يفسر الاختلاف بين برامج البودكاست والصحافة التقليدية في تغطية الحرب. فالأخيرة بمؤسساتها لا تنتمي فقط إلى النخبة السياسية والثقافية التي يركز اللوبي المؤيد لإسرائيل جهوده عليها بشكل عام، ولكنها كذلك مستهدفة بشكل خاص بحملات تقودها مجموعات مثل Honest Reporting ("أونيست ريبورتينج") وCAMERA ("كاميرا") المتخصصتين في دعم الرواية الإسرائيلية في وسائل الإعلام. وقبل 7 أكتوبر ثم بوتيرة أكبر بعدها تكرر أن تقوم مؤسسات صحفية كبرى بإقالة صحفيين أو إحالتهم للتحقيق أو وقف تغطيات مزمعة بعد حملات من مجموعات مؤيدة لإسرائيل.
في المقابل فإن برامج البودكاست الكبيرة أقل عرضة للتأثر بضغوط المجموعات المؤيدة لإسرائيل، بحكم أنها تعتمد أساسا على النجومية الشخصية لمقدميها، وهي بالتالي أكثر تحررا من الضغوط المؤسسية... بل وربما تكون برامج البودكاست أشد حساسية للضغوط الآتية من الجهة المقابلة – أي المؤيدة للفلسطينيين.
مثال على ذلك ما جرى مؤخرا مع "نيلك بويز" Nelk Boys وهم مجموعة من البلوجرز الذين يحظون بشهرة واسعة في أوساط الشباب، وتتمتع قناتهم على يوتيوب بأكثر من 8.5 مليون مشترك. المحتوى الذي يقدمونه هو محتوى ترفيهي في الأساس ومع ذلك يستضيفون أحيانا شخصيات سياسية، وكان برنامجهم من بين البرامج التي حل عليها ترامب ضيفا خلال حملته الانتخابية.
وفي أواخر يوليو 2025 استضاف "نيلك بويز" رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو، وأجروا معه حوارا أثار ضجة هائلة. فبدلا من أن يواجهوا الرجل المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بأسئلة جادة حول ما تفعله حكومته بالفلسطينيين، تركوا له الحبل على غارب ليردد ما يشاء، في لقاء أشبه بحملة إعلانية لتلميع صورة الرجل منه إلى حوار صحفي.
وعلى الفور جاء رد الفعل صارخا، فتعرضوا لانتقادات لاذعة على وسائل التواصل الاجتماعي وخسرت قناتهم أكثر من 10,000 مشترك خلال يوم واحد، وسرعان ما وجدوا أنفسهم مضطرين لاحتواء الغضب فأجروا حوارات مع منتقديهم (وعلى رأسهم باسم يوسف) وأعربوا عن ندمهم على اللقاء مع نيتانياهو.
ولعل هذا هو العامل الثالث في تفسير التباين في الخطاب بين برامج البودكاست ووسائل الإعلام التقليدية، فجمهور الأولى هم رواد مواقع التواصل الاجتماعي وهم أصغر سنا من جمهور الثانية، واستطلاعات الرأي تشير بوضوح إلى أن النظرة السلبية تجاه إسرائيل أكثر انتشارا بين الأجيال الأصغر.
هذا الأمر ليس خافيا على تل أبيب... ولقاء نيتانياهو بـ"نيلك بويز" ليس إلا جزءا من حملة تدرك مخاطر تنامي التعاطف مع الفلسطينيين بين جيل الشباب في الولايات المتحدة، وتحاول كسبه من خلال وسائطه ونجومه المفضلين. وفي الواقع فإن اختيار "نيلك بويز" تحديدا لإجراء الحوار لم يأت اعتباطا، فقد بدأت عملية استمالتهم قبل أكثر من عامين عندما رتبت لهم زيارة مدفوعة الأجر إلى إسرائيل في مارس 2023 "ليتعرفوا بأنفسهم على ما تقدمه إسرائيل واليهودية"، كما كتب آنذاك إيلكانا بار إيتان أحد منظمي الزيارة، في مقال خصصه للدعوة إلى تركيز الجهود الإسرائيلية على البلوجرز بدلا من وسائل الإعلام التقليدية "التي ينحسر تأثيرها يوما بعد يوم".
لقد هيمنت السردية الإسرائيلية طوال عقود على الخطاب العام في الولايات المتحدة (وغيرها من الدول الغربية) لعدة أسباب من بينهما القدرة على التأثير على وسائل الإعلام، واليوم تتعرض هذه الهيمنة للتحدي نتيجة بزوغ سرديات أكثر تعاطفا مع الحق الفلسطيني في وسائل إعلام جديدة، يتنامى تأثيرها يوما بعد يوم. وبينما يمثل هذا التطور فرصة جيدة لنا، فإن الطرف الآخر كذلك ليس غافلا عنه، وإنما يسعى جاهدا إلى تطوير أدواته لكسب هؤلاء المؤثرين وضمان استمرار هيمنة سرديته.