على الرغم من تراجع أسعار المنتجات الزراعية أخيرا فى الأسواق السلعية الرئيسة على خلفية الهبوط الآمن للسياسة النقدية الأمريكية، واحتواء معدلات التضخم إلى ما يزيد قليلا على 3% بما يؤشر على قرب انتهاء حمى التشديد النقدى، وعلى خلفية اتفاق الحبوب فى القرم والذى يواجه تعثرا كل حين، لكن آثاره الجيدة أثمرت بشكل فعال خلال الشهور الماضية، فإن مصر وعددا من الدول مازالت تعانى من ارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير (التضخم الأساسى السنوى فى مصر يدور حول 38%ــ40% منذ بداية العام). ذلك لأن مصر فى تقديرى تعانى من أثر ما بعد الصدمة بشكل كبير. حيث تسببت هروب الأموال الساخنة (قدرها السيد رئيس الوزراء بنحو 20 مليار دولار) فى مواجهة الدولة لأزمة حقيقية فى تدبير العملة الصعبة، خاصة مع تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولى على التسهيل الممتد والذى يقدر بـ3 مليارات دولار (بين حزمة تصل إلى 17 مليار دولار مستهدف 14 مليار دولار منها من دول الخليج). كذلك أدى ازدواج سعر الصرف وعودة ظهور السوق السوداء إلى تعثر عمليات تخارج الدولة من النشاط الاقتصادى، وهى مصدر مهم للنقد الأجنبى يمكنه أن يعجل بسداد الديون الخارجية عالية التكاليف.
ولأن التضخم يتأثر بنوعين من العوامل أحدهما يتصل بجانب الطلب والآخر يتصل بجانب العرض، فإن التعامل معه تحفه الكثير من المخاطر، لأن السياسات المستخدمة لاحتواء معدلات التضخم المرتفعة الناتجة عن صدمات جانب الطلب ستؤدى حتما إلى الإضرار بجانب العرض والعكس صحيح. كذلك يمارس البنك المركزى سياسات أخرى منها عمليات السوق المفتوحة، التى يدخل من خلالها بائعا لبعض الأصول التى فى حوزته، بذات الغرض، وهو امتصاص فائض المعروض النقدى. وأحيانا يتدخل المركزى بشكل مباشر لجمع فائض السيولة من البنوك.
عندما يقوم البنك المركزى باتباع تلك السياسة الانكماشية، والتى يواكبها عادة انكماش السياسة المالية، عبر تدابير أخرى منها زيادة الضرائب والرسوم وترشيد الإنفاق العام، فإن جانب العرض فى الأسواق يتضرر بشدة، ويتمثل جانب العرض هنا فى المنتجين والمستوردين للسلع والخدمات. مناط الضرر يمكن إيضاحه بمثال مبسط، حيث يلجأ المنتجون إلى البنوك لاقتراض الأموال بغرض الاستثمار لزيادة الإنتاج، سواء بالتوسع وشراء الآلات والمعدات، أو من خلال تدبير رأسمال عامل، يساعد المنشأة على تمويل دورة الأعمال، وما يترتب عليه ذلك من زيادة وتحسين جودة الإنتاج، وتوفير فرص العمل أو فى القليل المحافظة عليها. لكن اللجوء إلى المصارف يعنى تحمل المنشأة لأسعار فائدة مرتفعة نسبيا نتيجة للتشديد النقدى. كذلك ترتفع تكلفة سائر بدائل التمويل ومنها التمويل الذاتى أو باللجوء إلى شريك استثمارى، وذلك لأن الفائدة المرتفعة على الودائع وشهادات الادخار فى البنوك سترفع من تكلفة الفرصة البديلة لهذا النوع من التمويل، أى إن المستثمر سوف يقارن العائد على الاستثمار الصناعى مثلا بالعائد على شهادات الادخار، ويفضل العائد على الأخيرة خاصة مع خلوها تقريبا من المخاطر التى يتعرض لها النشاط الإنتاجى بطبيعته. أيضا السياسة المالية الانكماشية تضر بالأسواق، لأنها تخفض من الطلب العام على السلع والخدمات، فتتعرض الأسواق لفرص الكساد، وتتراجع فرص التشغيل، وترتفع معدلات البطالة.
عندئذ تزداد فرص تعزيز التضخم بروافد من جانب العرض، لأن تضرر الإنتاج بفعل ارتفاع تكاليف التمويل (كأحد أبرز العوامل) من شأنه أن يمثل صدمة فى المعروض السلعى والخدمى ــ هذه المرة ــ وليس المعروض النقدى، إذ إن التراجع فى حجم السلع والخدمات المتاحة بالأسواق يعنى شحها ومن ثم ارتفاع (أى تضخم) أسعارها. إذن من الأهمية بمكان أن يميز صانع السياسة الاقتصادية بين طائفتى الصدمات فى جانبى العرض والطلب كبداية لتشخيص التضخم، ثم من الضرورى أن يأخذ فى الاعتبار أهمية المواءمة بين سياسات الاحتواء الضرورية، وتلك التى ينشأ عنها أضرار فى الجانب الآخر من المعادلة التوازنية فى الأسواق.
• • •
لا بديل عن مزيد من الرفع فى أسعار الفائدة أو إصدار أوعية ادخارية بأسعار فائدة استثنائية (شهادات ادخار بأسعار فائدة لا تقل عن 25% مثلا) وذلك فى الأجل القصير ولحين هدوء انفلات التضخم. مثال على إخفاق التعامل مع التضخم الجامح بطريقة غير تقليدية هو ما شهدته الليرة التركية من انهيار بسبب معاندة المركزى التركى فى اتخاذ أى قرار بالتشديد. اليوم تقوم محافظ المركزى الجديدة بعكس ذلك الأثر بحدة شديدة حتى بلغت الفائدة فى تركيا 40%!
يقابل هذا لمساعدة الاستثمار على تخطى مخاطر التشديد النقدى، إتاحة بدائل لتمويل المشروعات الإنتاجية (الزراعية والصناعية على وجه الخصوص) بتسهيلات وأسعار فائدة وفترات سماح جاذبة للاستثمار، بغرض معادلة الأثر السلبى لأسعار الفائدة المرتفعة على الإقراض.
كما يجب أن تلجأ الدولة إلى ضبط الأسواق لمنع الممارسات الاحتكارية وتشديد العقوبة عليها، ومنع الدولرة (والتى تعنى استخدام العملة الصعبة لإتمام أى نوع من الصفقات داخل القطر المصرى) وإحكام السيطرة على الأسواق لحماية المستهلك ومنع التجار من حجب السلع والمغالاة فى رفع الأسعار. مع البدء فورا فى تطبيق آلية استقرار الأسعار لمنتجات الطاقة والسلع الاستراتيجية عبر عقود التحوط المستقبلية وذلك بالاستعانة بالبنوك العالمية المتخصصة.
يجب أيضا خفض التعريفة الجمركية على منتجات الغذاء المصنعة (تتراوح بين 20 ــ 30% فضلا عن 10% ضريبة مبيعات). وقد كانت هذه من ضمن توصيات لكاتب هذه السطور فى سياق الحوار الوطنى وتم الأخذ ببعضها بنسب متفاوتة.
كذلك يجب خفض المعروض النقدى، مع التقيد بمعادلة فيشر لدى إصدار البنكنوت الجديد. كما أن الاعتماد على الاستثمار الأجنبى لتعويض معدل الادخار المحلى شديد الانخفاض (بين 6% ــ 8%) هو أمر لا غنى عنه خاصة فى الأجلين القصير والمتوسط. تحفيز الاستثمار الخاص يتطلب تخارج الدولة من النشاط الاقتصادى الذى يمكن أن يقوم به القطاع الخاص المصرى والأجنبى. مع بقاء الدولة فى الأنشطة التى يعزف المستثمر الخاص عن ضخ الأموال فيها، وبعض المجالات المحدودة والمحددة حصرا التى تتمتع بخواص استراتيجية استثنائية.
• • •
أما من ناحية الاقتصاد الحقيقى، وفيه يكمن الحل المستدام لأزمتى عجز الموازنة وميزان المدفوعات، المتسببتين فى زيادة الاعتماد على الدين وارتفاع الطلب على النقد الأجنبى وتعزيز التضخم.. فإن قطاع الصناعات التحويلية ما زال بعيدا عن تحقيق مستهدفاته ليكون قاطرة لمختلف القطاعات. وما زالت مساهمته فى الناتج المحلى محدودة ومقيدة بأزمة التمويل (نتيجة توقف المبادرات الجادة الداعمة للقطاع) وبأزمة الطاقة، التى تنبأ بها كاتب هذه السطور قبل عامين من تحولها إلى مشكلة فى قطاع الكهرباء، تتسبب فى وفورات سلبية كبيرة نتيجة القطع المنتظم فى التيار لتوفير الغاز الطبيعى للتصدير، لحل أزمة النقد الأجنبى من ناحية، ولتعويض نقص الصادرات الناتج عن انخفاض الإنتاج الغاز محليا من ناحية أخرى.
وللتعامل مع هاتين الأزمتين يجب أن توفر الدولة صناديق داعمة للصناعة المعدة للتصدير ذات المكون المحلى الغالب، والاعتماد المتزايد على مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة من خلال حلول لا مركزية لإنتاج الطاقة، وهو ما يستدعى فصل هيئة الطاقة المتجددة عن وزارة الكهرباء لتجنب تعارض المصالح. كذلك يجب أن تخطو الدولة بخطى متسارعة نحو حل مشكل تعدد الولاية على الأراضى بشكل حاسم ووقف فوضى التراخيص.
• • •
يجب أن يشهد عام 2024 مزيدا من المرونة فى سعر الصرف. لكن تلك المرونة مشروطة بتوفير حصيلة دولارية تسمح بإشباع الطلب على الدولار عند أسعاره الجديدة، حتى لا تستمر موجات الدولرة، وحتى لا يتحول التخفيض المتكرر فى قيمة العملة المحلية إلى عقوبة جماعية، تلقى بظلالها على أسعار السلع والخدمات من خلال تمرير صدمات سعر الصرف إلى تكاليف استيراد السلع أو مدخلات إنتاجها ومن ثم إلى الأسعار التى يتحملها المستهلك. ولتوفير السيولة الدولارية لابد من رفع أسعار الفائدة الاسمية كى لا تبقى الفائدة الحقيقية سالبة (بعد استبعاد قيمة التضخم) حتى تجتذب أدوات الدين المصرية تدفقات رءوس الأموال من جديد. يساعد على ذلك بدء تعافى الاقتصادين الأمريكى والأوروبى من التضخم، وتوقعات وقف موجات رفع الفائدة فى الاقتصادات المتقدمة. كذلك تتدفق رءوس الأموال الأجنبية من خلال استمرار تخارج الدولة لصالح القطاع الخاص، ومن خلال تنشيط سوق المال وابتكار أدوات مالية جديدة، ومن خلال تحسين بيئة الاستثمار.
الضبط المالى من ناحية أخرى يقلل من العجزين الداخلى والخارجى فى الأجل القصير، ويحد من الاقتراض بالعملة الصعية بما يقلل من الطلب على الدولار بشقيه (سواء لسداد الدين الأجنبى أو لاستيراد مدخلات إنتاج بالمشروعات القومية ذات المكون الاجنبى الكبير). كما يجب أن تستعد مصر خلال العام 2024 لصدمات قطاعى السياحة والنقل فى شرق البلاد، بتنويع مصادر الدخل الناتج عن تلك الخدمات. من ذلك على سبيل المثال، الاهتمام بترويج السياحة الثقافية جنوب البلاد، والسياحة الترفيهية الصيفية غرب البلاد، مع إعداد تجهيزات عالمية لافتتاح المتحف المصرى الجديد بفاعليات تستمر على مدى العام.
كما يجب أن تعتمد مصر خلال العام المقبل على التحوط ضد تقلبات الطاقة والغذاء بعقود مستقبلية وعقود خيارات. وأن تستعد لصدمة السوق العقارية فى الصين والتى من شأنها تحقيق تباطؤ فى النمو العالمى لعدة سنوات مقبلة على الأقل. مع تفعيل عضويتها فى تجمعات مهمة مثل «بريكس» للتفاوض حول هيكلة الدين الخارجى للدول الأكثر استدانة، مع استخدام أفكار مبتكرة كالتى استحدثها وزير الخزانة الامريكى «نيكولاس بريدى» عام 1989 لحل أزمة ديون دول أمريكا اللاتينية، والمعروفة بـ«سندات بريدى»، التى أعادت هيكلة ديون دول أمريكا اللاتينية على نحو يحقق أهدافها التنموية.