«بدأ موسم الحرائق باكرًا هذه السنة»، هذه الجملة أو العنوان الذى يُستعمل منذ أكثر من عشر سنوات عند اندلاع الحرائق لم يعد يشكّل صدمة، فمع كثرة الحرائق التى بدأت تتوزّع على جميع فصول السنة، أصبح استعمال هذه الجملة نوعًا من الكليشيه الذى عفا عليه الزمن.
افتتحت القبيات شمال لبنان موسم الحرائق، وتبعتها مناطق أخرى فى عكار، وصولًا إلى أخبار الحرائق الآخذة بالتوسع فى مناطق الساحل فى سوريا، إلى الحرائق فى اليونان، تركيا، إسبانيا، وفرنسا، أى أن جميع دول حوض المتوسط تتعرض للحرائق بشكل غير مسبوق.
بحسب العلماء، وبعد دراسة البيانات، سجّلت منطقة البحر الأبيض المتوسط، خصوصًا الجزء الغربى منها، درجات حرارة تفوق المعدلات الموسمية، الأمر الذى فاقم الجفاف فى هذه المناطق، وسيجعلها عرضة لحرائق كارثية خلال فصل الصيف.
تشير الدراسات إلى أن غابات لبنان تبلغ مساحتها نحو 139 ألف هكتار، وتغطى نحو 13 فى المئة من أراضيه. وفى السنوات الأخيرة، وصل مجموع خسائر المساحة الخضراء إلى 360 مليون متر مربع، أى نحو 9.8 فى المئة من المساحة الخضراء.
بحسب مرصد جامعة البلمند، فإن المعدل السنوى للحرائق هو ألف هكتار، وفى العام 2020 وحده احترق نحو 7000 هكتار، وفى العام 2022 قضت الحرائق على نحو 700 هكتار.
يشدّد المرصد على أن الحرائق التى تطاول الأرز واللزاب والشوح هى الأخطر، لصعوبة تجدّدها، بينما حرائق غابات السنديان والصنوبر فلديها إمكانية الإنبات الطبيعى.
يتميّز لبنان بفرادة غاباته فى منطقة البحر الأبيض المتوسط من حيث التنوع الموجود فيها، وتؤكد الدراسات الاقتصادية أن لغابات لبنان فرصًا اقتصادية كبيرة فى حال عرفنا كيفية استثمارها، خصوصًا فى موضوع دعم السياحة البيئية، التى قد تسهم فى إيرادات كبيرة للدولة اللبنانية.
• • •
على الرغم من أن غالبية الحرائق فى لبنان مفتعلة، بحسب الخبراء، وخصوصًا فى ظلّ الانهيار الاقتصادى، إذ ازدادت عمليات قطع الأشجار للتدفئة بسبب ارتفاع كلفة المحروقات، إلا أن التغير المناخى، الذى يؤدى إلى زيادة حالات الجفاف الشديدة وتواترها وارتفاع درجات الحرارة فى منطقة البحر الأبيض المتوسط، يُعدّ عاملًا حاسمًا فى تفاقم المشكلة.
فمن المتوقع أن يشهد لبنان ارتفاعًا فى درجة الحرارة بمقدار 1.6 إلى 2.2 درجة مئوية بحلول منتصف القرن، وبمقدار 2.2 إلى 4.9 درجة مئوية بحلول نهاية القرن. كما يُتوقع أن ينخفض معدل هطول الأمطار بنسبة تتراوح بين 6.5 و9 فى المئة بحلول منتصف القرن، وبنسبة تتراوح بين 9 و22 فى المئة بحلول نهاية القرن، وذلك بناءً على محاكاة أجرتها مراكز أبحاث على منطقة المتوسط.
من المتوقع أيضًا أن تزداد أيام الجفاف المتتالية، ما يؤدى إلى تفاقم الوضع من خلال تهيئة الغابات والأحراج لنشوب الحرائق.
بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع معدلات الحرارة وانخفاض عدد الأيام الباردة سيؤثران على متطلبات البرودة اللازمة لإنبات البذور والأزهار، وبالتالى صعوبة تجدّد الغابات المحترقة.
سابقًا، تعرّضت غابات لبنان للحرائق لكنها عادت وتجددت، خصوصًا الغابات التى تحوى أنواعًا من الصنوبر والأرز اللبنانى والتنوب والعرعر والسرو، إلا أن تحوّل المناخ وجنوحه من مناخ شبه رطب إلى مناخ جاف سيؤثران على هذه الأشجار، المعروفة بحساسيتها الشديدة لتغير المناخ.
وبحسب البيانات التى تم تجميعها على مدى عشرات السنين، فإن خطر الحرائق يتزايد بين يونيو وسبتمبر، إذ تظهر الرسوم البيانية أن هذه الفترة تشهد أعلى عدد من المناطق المحروقة وحوادث الحرائق، إلا أنه، ومع ازدياد فترات الجفاف، يطول موسم الحرائق ليصل إلى شهر نوفمبر، ما يُسبب تهديدًا أكبر للغابات.
• • •
بالتزامن مع حرائق لبنان، شهدت المنطقة الساحلية فى سوريا، خصوصًا فى محافظة اللاذقية، عددًا من الحرائق، وقد أظهرت الفيديوهات ألسنة النار المرتفعة، وعدم قدرة فرق الإطفاء على مكافحتها.
وأكدت التقارير أن وعورة التضاريس فى المنطقة، ووجود مخلفات من الحرب كالألغام، صعّب من مهام فرق الإطفاء، بالإضافة إلى سرعة الرياح. وقد أتت النيران حتى الساعة على نحو 7500 هكتار من الأراضى، مع إخلاء عدد من القرى.
وبحسب تقرير صدر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، فإن سوريا تشهد ظروفًا مناخية هى الأسوأ منذ 60 عامًا، وأن الجفاف غير المسبوق فى المنطقة سيجعل أكثر من 16 مليون شخص عرضة لانعدام الأمن الغذائى.
فى اليونان، تعرّضت غابات جزيرة كريت لحرائق كبيرة تمّت السيطرة عليها، ولكنها عاودت الاشتعال فى ظلّ موجة حرّ غير مسبوقة، ودرجات حرارة أعلى من المعدلات الطبيعية، بالإضافة إلى رياح قوية أدت إلى تفلّت النيران ووصولها إلى مناطق سكنية وسياحية، حيث تم إجلاء الكثير من السكان.
"التغير المناخى ليس مشكلة مستقبلية بل كارثة راهنة"، هذا ما أكّده عدد من علماء المناخ أخيرًا، منتقدين الاستخفاف فى التعامل مع هذا الموضوع، ومؤكدين أن الحرائق ليست كوارث طبيعية بل نتيجة مباشرة لتغير المناخ.
وقد هاجموا الحكومات الأوروبية التى فشلت فى تنفيذ إجراءات استباقية، على الرغم من وجود خطط واستراتيجيات لتحسين إدارة الغابات وتقليل انبعاثات الكربون، ودعوا إلى تعزيز وعى الناس والحكومات تجاه التغير المناخى، وعدم تحويله إلى مجرّد نقاش سياسى يتم فيه تبادل الاتهامات بل إيلاؤه الأهمية القصوى، لأنه مرتبط بموضوع البقاء.
إيلى كلدانى
موقع درج