نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب فردريك معتوق بتاريخ 4 يوليو، تناول فيه مراحل فقدان الفكر الثقافى العربى خلال عصور مختلفة، مع ذكر الارتباط الوثيق بين فقدان بوصلة الثقافة العربية وظهور عصر العصبيات فى العالم العربى الآن... نعرض من المقال ما يلى:الثقافة شأنٌ ثقافى لا محالة، وبالتزامُن أيضا، شأنٌ اجتماعى. ففى شكلها البسيط تتماهى مع كل ما يُضيفه الإنسان على الطبيعة، ولكنْ فى شكلها الأكثر تركيبا ورمزية تغدو فكرا أو منظومة فكرية. وفى جميع الحالات هى تنبثق من حاجةِ جماعةٍ بشريةٍ ما إليها لانتظام حياتها اليومية والعملية.
على هذا الأساس فإن الفكرة أو الأفكار تقوم على مشروع بشرى معيَّن يكون سبب وجودها واستمرارها أو تغييرها، وهنا تكمن المُعضلة الكبرى، إذ يسعى الشخص المعنى دوما بإنتاج الأفكار (كزهرة لإنتاج الثقافة) إلى جعْلها تطير فى فضائها الخاص، بعيدا من مشروعها الجماعى المُعلن أو غير المُعلن.
لكنَّ المشروع الثقافى والفكرى يبقى شرطا لا بدَّ منه لبقاء التفكير على قيد الحياة. لقد كان للمفكرين العرب مشروع ــ ماضيا ــ وكان لهم بوصلة هادية وصلبة، لكنْ لماذا نشعر اليوم بأنَ هذه البوصلة لم تعُد فاعلة؟
صحوة النهضة العربية
فى زمن التصحُّر الفكرى العثمانى الطويل، حَصَلَ خلاله إفقارٌ شعبى ومَعرفى مناطقى واسع فيما كانوا يُسمونه بالولايات العربية، حيث تراجعتِ المعرفة العربية من وِضْعتها العقلية الأصلية إلى وِضْعةٍ نقلية هشَّة تقوم على شحٍ لافت فى الإبداع. من هذا القعر العثمانى انبعثت النهضةُ العربية، مُحاولة النهوض بمشروعٍ عربيٍ جديد قادر على مُواكَبة العصر والحداثة، إلا أنَ البوصلة الموجِهة لهذا المشروع الجديد لم تأتِ استنهاضيةَ الطابعِ بل جاءت تبعية الأُفق. فجُلُّ ما سَعَتْ لتحقيقه لم يتجاوز موضوعيا مستوى إحياء اللغة العربية وإعادتها إلى مجدها فى الحياة الثقافية والإعلامية بمُواجهة مشاريع التتريك الفاشلة.
ولو عُدنا إلى تجربة عصر الأنوار فى أوروبا وما تَبعها على يد الأنسيكلوبيديين لَلاحظْنا أنَها جاءت على يد فلاسفة ومفكرين بشكلٍ أساس، الأمر الذى جَعَلَ من مشروعها مشروعا فكريا وفلسفيا فى المقام الأول.
من هنا جاءت الأنسيكلوبيديا، بتسميتها اللافتة، ولأول مرة فى تاريخ المعرفة البشرية، «الأنسيكلوبيديا أو القاموس المُعَقلَن للعلوم والآداب والمِهن»، شارَكَ فى إنتاجها مائة وستون فيلسوفا ومفكرا وعالِما، كلٌّ فى اختصاصه. فى حين أنَّ دائرة المعارف التى أبصرت النور، فى عز حركة النهضة العربية، مُعبِرة عن روحها، لم تتجاوز قَلَمَ كاتبٍ بارعٍ هو المعلم بطرس البستانى وأبنائه وحفيده. وقد كانت مشروعا ثقافيا بارزا فى حينه لكنْ من دون التزامٍ حقيقى بقضايا المُجتمعات العربية الفكرية المُرتبطة بالنظام المعرفى السائد أو السياسى المستقبلى.
صدمة الحرب العالَمية الأولى
جاءت وقائع الحرب العالمية الأولى والسقوط المدوى للسلطنة العثمانية بمثابة انهيارٍ مَعرفى. ووجدتِ الشعوبُ العربية نفسَها، كإثنياتٍ موسَعة وجماعاتٍ عصبية متفرقة، أمام فراغٍ فكرى مُضاعف؛ إذ لا مشروع عربيا بديلا قادرا على أن يَفرض نفسَه على الزمن الاستعمارى الذى أَعقب الهزيمة العثمانية.
ففى ظل هذا الواقع ما كان للفسيفساء العربية الاجتماعية والسياسية التقليدية إلا التبعية. وهنا دَخَلْنا فى عصرِ الأنوميا والاختلال الاجتماعى العام، بل فى الاختلال المَعرفى العام، إذ إنَ البوصلة الإسلامية والعربية الأولى لم تَعُد فاعِلة. كونها لم تتعرَض لضرورةِ محو موروثات الماضى المعرفية قبل الشروع بتقليد الأنموذج الطليعى الغربى. فكانت النتيجة ضياعا بين فكرٍ تقليدى انتهت مدة صلاحيته، وعدم بزوغ فكرٍ واقعى تغييرى جديد قادر على تحقيق النقلة المطلوبة عربيا بنجاح. وفى نهاية المطاف كان الوصول إلى فراغٍ فكرى وامتلاءٍ إيديولوجى جَعَلَ الشعوب العربية تقع فى فخ التمظهُر الثقافى العصرى المُتمدن الضاربة جذورُه عميقا فى المعرفة العصبية على حساب التقدُم والعقلانية الاجتماعية والإنمائية.
صعوبة بناء الأنموذج الإرشادى العربى الجديد
فى ظل هذه المَعْمَعة الفكرية بين ما يُسميه البعض الأصالة وآخرون التحديث، ضاعَ المشروع العربى وفَقَدَ بوصلته مجددا، لا بفعْل العثمانيين أو الغربيين هذه المرَة بل بفعل مُمانعاتٍ مختلفة الطرابيش والقبعات لم تسعَ لبناء أنموذجٍ ثقافى عربى نَوعى جديد ولا أنموذج معرفى حضارى مُبتكر.
فى هذا الحراك الهوائى الكثيف الذى قاده تارة مثقفٌ قَومى وتارة أخرى مثقَفٌ يساروى وطورا مثقَف تقليدى، ضاعَ قرنٌ كامل من الزمان لم يتبلور خلاله أنموذجٌ إرشادى عربى جديد.
فى هذا الخصوص لا بدَ من ذكر مُحاولاتٍ تنموية ثقافية وفكرية عديدة صَدرت عن دور نشْرٍ جادة، كدار الطليعة فى بيروت، أو مجالس ثقافية عليا فى مصر أو وزارات ثقافة عملت على ترجمة بعض الكُتب المُهمة ونشْرها، لكن كل ذلك، على الرغم من كَمه ونوعيَته، لم يُغير فى طبيعة أى مُجتمع عربى آخر! لماذا يا تُرى؟
لا يقع السبب عند المنشورات بل عند البنية المعرفية التى لم يَشأ القارئ مغادرتها لا تربويا ولا ثقافيا ولا سلوكيا. فالهجانة الثقافية المُعتمَدة منذ عصر النهضة العربية لم تُنتِج حتى اليوم مشروعا عربيا حقيقيا خلاقا.
لذلك تعنى الأنوميا الفكرية والثقافية استمرارا لفقدان المشروع الحضارى الاستراتيجى وضياعا للبوصلة. كما أنَّ هذه الأنوميا تعنى البقاء فى مُستنقعاتِ المُمانعة المموَهة والكسل الحضارى، بحيث لا يفيد كم الإنتاج الثقافى الحالى عند الجميع، والذى تحوَلَ اليوم إعلاميا، بسبب تزامنه مع كوابح ذهنية تُعطِل بألف طريقة وأسلوب عملية التقدم المعرفى، عبر تجاهلها ضرورات ما بعد الثقافى والتعليمى والإعلامى الصرف.
حيرة أمام التراث
فالتراث العربى الذى هو من أغنى التراثات المعروفة فى العالَم وأغْزرها تنوُعا تحوَل إلى مادة لا وزن يُذكر لها فى حياة العرب المُعاصرين. فالمادة التراثية تخضع لمنظورٍ ثنائى يقوم على التجميد والتمجيد. على سبيل المثال، مؤلفات ابن سينا فى الطب لا زالت كما وَضَعها صاحبُها، ولم تَدخل خُلاصات كِتاب «القانون فى الطب» لا إلى المُختبرات ولا إلى المستشفيات العربية، مع أنَها كانت هى الأساس فى تطوُر الطب الغربى؛ فمَن تعامَلَ على نحوٍ تفاعُلى مع «قانون المَعِدَة هى باب الدواء والداء» هُم الباحثون الغربيون.
لكنَ الذين تعاملوا مع التراث عندنا أبَوا عموما أن يحذوا حذوَ فلاسفة عصر الأنوار فى أوروبا، عندنا تمَ تعطيل عقلانية ابن خلدون واليعقوبى وابن سينا وسواهم، التى قامت عليها الحضارة العربية والمشروع الفكرى المُمنهَج العربى الأول، ورُمى التراث بين أيدى أنصاف وأرباع مثقفين وجُهالٍ أمعنوا كلٌ على طريقته بجعْله إمَا رديفا للدين عند الأصوليين الذين حظَروا المساس به، أو مادة بلا وزن عند مثقَفى النهضة الذين لم يشاؤوا استكمال مَسيرته بتثميرها الفكرى، أو مادة تصلح فقط للاستثمار الأيديولوجى فى الشعارات الجماهيرية لدى المثقفين الحزبيين العرب، أو عشبة ضارة ينبغى استئصالها عند المثقفين اليساريين.
الانطواء الوطنى كحاصلٍ فكرىٍّ عام
فى ظل عدم إنتاج مشروعٍ ثقافى عربى واسع، كان لا بدَ من أن يحصل عاجلا أم آجلا تقوْقُعٌ فكرى محلى فى كل بلدٍ من البلدان التى أَنشأتها اتفاقيات ما بعد الحرب العالَمية الأولى. وقد تجلى هذا الأمر بالتقوقُع الوطنى العصبانى لدى الشعوب العربية والشرق أوسطية؛ بحيث عاد الشأنُ الثقافى والتربوى العام، بصمتٍ وتحت مسميات مختلفة، إلى أحضانِ المعرفة العصبية.
إنَ عودةَ أو مواصلةَ عهد العصبيات فى العالَم العربى المُعاصِر لم يحصل بشكلٍ مكشوف، بل بشكلٍ مستور، إذ يُتاح التفكير مثلا فى الشئون كافة تقريبا فى البلدان المغاربية ما عدا فى الوحدة المغاربية، بموافقة الجميع وعلى قاعدة أن لا مصلحة حقيقية لأحدٍ بالأمر، بناء على خلفية غير مُعلَنة من العصبيات. فالكل يرفع شعارات التقدمية والتحديث، لكنَ الكل يكبحها على طريقته ويُخضعها عنوة لنقيضها غير المُعلن عنه. كما تكثر مراكز الأبحاث والدراسات شرقا وغربا، لكن ما من بلد عربى يجرؤ على إنشاء مراكز للأبحاث أو وحدة بحثية علمية تكون مهمتها دراسة العصبية بتجلياتها العربية كافة فى عالَمنا المُعاصر؛ علما بأنَه من هذه النقطة بالذات بدأ التنوير الأوروبى الذى قَلَبَ وجه الغرب.
كى لا أطيل الكلام، وأبدو وكأنى أُمعن فى نكء الجراح، أقول إنَ زمن العصبيات ليس شأنا حتميا تُعانى منه المُجتمعات العربية، إذ إننا نشهد اليوم ولادة أول دولة عربية تُحاول بصدق الخروج من بوتقة العصبيات، وهى دولة الإمارات العربية المتحدة التى اعتمدت التوحيدَ الطَوعى لسبع إمارات كان بإمكانها أن تبقى مُنفصِلة وتُشكِل كلُ واحدةٍ منها دولة عصبية خاصة بها، كما أنَ هذه الدولة الفَتية قد اعتمدت سلوكا عقائديا سِلميا جَعَلَها تُمارِس الأديان كافة مع الاحتفاظ بدينِ شعبها الخاص، كما أنَها مدَت جسور الثقافة والتكامُل فى كل اتجاه عربيا ودوليا، فى مسعى منها لبناء مُواطَنة عربية جديدة كمدخلٍ نهضوى جديد لفكرٍ عربى حديث لطالما انتظرْنا بزوغَ فجره.
الاقتباس
فى ظل عدم إنتاج مشروعٍ ثقافى عربى واسع، كان لا بدَ من أن يحصل عاجلا أم آجلا تقوْقُعٌ فكرى محلى فى كل بلدٍ من البلدان التى أَنشأتها اتفاقيات ما بعد الحرب العالَمية الأولى. وقد تجلى هذا الأمر بالتقوقُع الوطنى العصبانى لدى الشعوب العربية والشرق أوسطية.
النص الأصلى