يوم 6 أغسطس من كل عام، يدور الجدل والنقاش حول مسألة قصف الولايات المتحدة لمدينتى هيروشيما وناجازاكى بالقنبلتين الذريتين، وما إذا كان ذلك الفعل ضروريا ولازما!
الواقع آنذاك أنه بعد هجوم البحرية اليابانية على قاعدة بيرل هاربور، وإعلان الولايات المتحدة الحرب على اليابان، أخذت الأمور منحى آخر لليابان التى كانت تأمل أن تكون تلك الضربة قاصمة للأمريكيين، لكن العكس هو الذى حدث، إذ نزلت الولايات المتحدة ميدان الحرب بقضها وقضيضها ومن خلفها المجمع الصناعى الأمريكى الهائل من الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية.
استطاعت البحرية الأمريكية تدمير جانب كبير من الأسطول التجارى البحرى اليابانى، ومع ندرة الموارد الطبيعية والاعتماد اليابانى شبه الكامل على استيراد المواد الخام مثل الفحم والحديد والصلب والمطاط والنفط، أخذت الأمور فى التراجع التدريجى فى اليابان.
وفى ظل الدمار المكثف الذى تعرضت له المراكز الصناعية وترسانات بناء السفن والموانئ البحرية المتجهة من وإلى اليابان جراء القصف الأمريكى المتواصل، تقلص الإنتاج الصناعى اليابانى من السفن والطائرات والدبابات والمدافع وكافة أنواع المعدات الحربية فى العامين التاليين لبيرل هاربور إلى النصف تقريبا.
فى ميادين القتال تعرضت الجيوش اليابانية لسلسلة متتالية من الإخفاقات فى حملتى جزر ماريان وجزر الفيلبين فى جنوب غرب المحيط الهادئ، واستولت قوات الحلفاء على جزر إيوجيما وأوكيناوا القريبة من اليابان، وتوالت خسائر البحرية الإمبراطورية اليابانية، فى ظل نقص شديد فى إمدادات الوقود.
أثناء تلك الفترة كانت الخارجية اليابانية تبذل قصارى جهدها فى التواصل مع السويد وسويسرا والفاتيكان وحتى الاتحاد السوفييتى للتوسط لدى الحلفاء فى إنهاء الحرب بصورة مشرفة لليابان.
كانت الولايات المتحدة على علم بكل ما سبق، وخاصة بعد تمكن خبرائها من فك الشفرة الأرجوانية السرية لاتصالات وزارة الخارجية اليابانية، فباتت مراسالاتها بالكامل كالكتاب المفتوح مقروءة للأمريكيين.
فى 26 يوليو 1945 وجه الرئيس الأمريكى ترومان إنذارا نهائيا وشديدا لليابان أثناء وجوده فى بوتسدام بألمانيا، وطالب اليابان بالاستسلام التام دون قيد أو شرط ومن دون تأخير وإلا ستواجه بحرب ودمار عاجلين وشاملين.
على الجانب اليابانى، كانت مسألة الاستسلام التام مسألة عسيرة، فالنظام الإمبراطورى اليابانى له قداسته الكبرى لدى الشعب اليابانى، فضلا عن أن مسألة الاستسلام غير واردة فى العقيدة الحربية اليابانية ولا الثقافة اليابانية، والجيش اليابانى كان رغم الصعوبات اللوجيستية مازال محتفظا بأكثر من ثلاثة ملايين جندى بكامل عدتهم وعتادهم.
انتظر الأمريكيون عدة أيام بعد الإنذار، ثم اتخذوا قرار قصف اليابان بالقنبلة الذرية، رغم أنها أرسلت رسائل عديدة عبر أطراف الوساطة برغبتها فى إيقاف الحرب والتوصل إلى تسوية مشرفة، ورغم أن كل المؤشرات العسكرية والاقتصادية واللوجيستية كانت تشير إلى أن استسلام اليابان ليس سوى مسألة وقت.
اختار الأمريكيون هيروشيما باعتبارها مدينة رئيسية ومركزا عسكريا وصناعيا وميناء هاما، وهى قاعدة لوجيستية رئيسية للجيش اليابانى ومنطقة تخزين للمعدات والذخائر والإمدادات ومنطقة تجميع للقوات ومركز للاتصالات المدنية والعسكرية، والمساحة الكبيرة للمدينة تجعلها هدفا مثاليا، وستؤدى الجبال المحيطة بها إلى إحداث تفعيل قوى لناتج القنبلة.
تم تحديد يوم السادس من أغسطس 1945 لإلقاء القنبلة، وبالفعل تم إطلاق القنبلة الساعة الثامنة والربع صباحا بتوقيت هيروشيما من القاذفة الأمريكية.
ولدت القنبلة موجات حرارية هائلة وصلت حرارتها إلى أربعة آلاف درجة مئوية وانبعثت كميات هائلة من النيوترونات وأشعة جاما، وأصابت البشر القريبين من الانفجار بجرعات إشعاعية قاتلة.
وبالإضافة إلى الحرائق التى اندلعت فى أنحاء المدينة على مساحة 4.4 ميل مربع تقريبا، وقدر المسئولون اليابانيون أن 69٪ من مبانى المدينة قد تم تدميرها تماما، ولقى 80 ألف إنسان مصرعهم على الفور، بينما تعرض 70 ألف آخرون لجروح وحروق شديدة.
أشارت التقديرات إلى أن مجموع الضحايا بحلول نهاية العام بلغ 140 ألفا، كما أشارت التقديرات إلى وفاة 200 ألف إنسان بحلول عام 1950 بسبب السرطان وغيره من الآثار الإشعاعية طويلة المدى.
بمجرد وصول أنباء القصف إلى طوكيو، صدرت الأوامر على الفور لأحد الضباط كى يتجه فورا بالطائرة إلى هيروشيما ويتبين حقيقة الأمر، ومع وصول الطائرة إلى أجواء المدينة أخذ الطيار فى التحليق بها وهو فى حالة من الذهول والرعب، وقام الضابط على الفور بإبلاغ هيئة الأركان فى طوكيو بالفاجعة الرهيبة.
بعد ثلاثة أيام وفى التاسع من أغسطس ألقيت القنبلة الذرية الثانية على ناجازاكى، وكانت آنذاك أكبر الموانئ البحرية فى اليابان وبها أكبر أحواض بناء السفن والأرصفة والمخازن، ولها أهمية استراتيجية كبرى كمركز صناعى رئيسى للصناعات الثقيلة والمصانع الحربية، وهى من أكبر القواعد اللوجيستية العسكرية للإمداد والتموين.
وكنتيجة لانفجار القنبلة قتل مباشرة 80 ألف إنسان، ومن تصاريف القدر أن عددا من الناجين من قصف هيروشيما كان قد هرب إلى ناجازاكى فتعرضوا للقصف مرة أخرى، فضلا عن النيران والدمار الهائل الذى تعرضت له المدينة، وتصاعد عدد القتلى طوال السنوات اللاحقة جراء الإشعاع الذرى.
وتؤكد التقارير أن دوائر وزارة الحرب الأمريكية قد خططت لاستخدام قنبلة ذرية أخرى فى الأسبوع الثالث من شهر أغسطس، بالإضافة إلى ثلاثة آخرين فى شهر سبتمبر، وثلاث قنابل إضافية فى شهر أكتوبر.
طوال الأيام التالية اجتمع مجلس الوزراء اليابانى لمناقشة الفاجعة الرهيبة التى تمر بها البلاد، وفى 14 أغسطس وبعد مناقشات عصيبة، وقف رئيس مجلس الوزراء فى اجتماعه ليقول: نحن كوزراء غير قادرين على التوصل إلى قرار، وفى ضوء هذه الحقيقة والموقف العصيب يبدو أنه علينا القيام بشىء واحد. واستدار نحو رأس القاعة موجها حديثه بأدب جم للإمبراطور بقوله: إن قراركم يا صاحب الجلالة مطلوب وما تقررونه سوف ينفذ.
بعد صمت طويل قال الإمبراطور فى هدوء حزين: إن استمرار الحرب يمكن أن يؤدى إلى إبادة الشعب اليابانى ويطيل المعاناة البشرية. يبدو واضحا أن الأمّة لم تعد قادرة على تحمل الحرب. هذا لا يُطاق بالنسبة لى، وكم هو صعب علىّ أن أرى جنودى المخلصين منزوعى السلاح ذاهبين من دون قول، لكن جاء الوقت لتحمل ما لا يُطاق تحمّله.
فى ذلك اليوم تم اتخاذ القرار، وقامت وزارة الخارجية اليابانية بإبلاغ الوسطاء والحلفاء بقبول اليابان إعلان بوتسدام.
ومازال السؤال يطرح نفسه إلى اليوم، هل كان القصف الذرى لليابان ضروريا؟! أم أن روح الانتقام المدمر لما حدث فى بيرل هاربور كانت وراء تلك الفاجعة؟.