فى عام ١٩٨١ بدأ عمال ميناء حوض السفن فى جدانسك فى بولندا يتظاهرون ويعتصمون ويحتجون ضد الحكومة الاشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفييتى السابق، مطالبين بالحرية والتخلص من سيطرة «الأخ الأكبر» فى موسكو.
الاحتجاجات لاقت دعما فوريا من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بل وبابا الفاتيكان يوحنا بولس الثانى الذى كان بولندى الأصل.
الحكومة قمعت الاحتجاجات بكل الطرق الممكنة وجاء رجل عسكرى صارم هو الجنرال فوتشيه ياروزلسكى ليُحكِم قبضته على البلاد. لكنه لم يستطع أن يعيد الأوضاع لما كانت عليه من «السمع والطاعة» للحزب الشيوعى الوحيد وقتها. الاحتجاجات استمرت بطرق متنوعة بقيادة الزعيم العمالى البارز ليخ فاونسا حتى سقط النظام الشيوعى فى أواخر الثمانينيات وأسقط معه كل الأنظمة الشمولية فى أوروبا الشرقية بسقوط سور برلين فى ألمانيا ولاحقا النظام السوفييتى نفسه فى موسكو.
إذن بولندا كانت هى الرائدة فى أوروبا الشرقية التى بدأ منها ما يمكن تسميته بالربيع الأوروبى على غرار ما حدث فى منطقتنا قبل ثلاث سنوات من تونس.
يوم الأحد الماضى زرت بولندا فى إطار وفد إعلامى مصرى متنوع بدعوة من المعهد الدانماركى للحوار ومسئولته الإعلامية نهى النحاس للاطلاع على التجربة البولندية فى الانتقال من عهد إلى آخر.
قابلنا مسئولى التليفزيون الحكومى ومسئولى شبكة تليفزيون خاصة كبيرة ومسئولى وكالة الصحافة الحكومية وبعض كبار الكتاب. المفاجأة كانت فى اللقاء الذى جمعنا مع ياتسيك جاكوفسكى الكاتب البولندى المعروف والمسئول البارز فى مجلة بولتيكا أو السياسة.
سألنا الرجل فى كل شىء لكن أهم ما قاله إنهم مازالوا يعيشون فى المرحلة الانتقالية رغم مرور ٣٢ سنة على بدء الثورة و٢٤ عاما على سقوط النظام الشيوعى.
تحدث الرجل مطولا عن التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية الخاصة بكل مجتمع. قال الرجل إن أوروبا طبقا للمفكر الإيطالى مانشينى قسم أوروبا إلى مجموعتين، الأولى فى شمال أوروبا واسكندنافيا وتميل إلى ثقافة التعاون والثانية فى الجنوب على شواطئ المتوسط وتميل إلى المواجهة وأن بولندا رغم قربها من الشمال جغرافيا فإنها تقع عمليا فى مجموعة الجنوب.
فى وسائل الإعلام الأخرى، تحدث من التقيناهم عن الصعوبات فى إبعاد المنتمين إلى العهد السابق. قالوا إن الأمر لم يكن موحدا حيث تم إبعاد القادة الذين كانوا غارقين فى اللعبة السياسية فى حين تم الإبقاء على من كانوا مهنيين ومتفوقين فى عملهم خصوصا أن بعضهم كان مجبرا على الانضمام للحزب الشيوعى على غرار ما كان موجودا عندنا أثناء فترة حكم الحزب الوطنى.
الخلاصة التى استخلصتها من الأحاديث مع مسئولى الإعلام البولندى بالمقارنة مع أوضاعنا ـ مع اختلاف الظروف بالطبع ـ إن الأحلام التى راودتنا مساء ١١ فبراير عام ٢٠١١ بأن الدنيا ستصبح ربيعا والجو سيصير بديعا فى صبيحة اليوم التالى لسقوط مبارك كانت مجرد أحلام وردية لشعب لم يتعود على الثورة. وأن التغيير سيأخذ وقتا طويلا خصوصا إذا كانت أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية متردية فى حين أن حال أوروبا الشرقية أفضل منا بمراحل.
علينا أن نكون واقعيين، لكن المهم أن ندرس حالنا جيدا ونحدد الطريق ثم نبدأ فربما نصل فى وقت ما إلى ما وصلت إليه أوروبا الشرقية الآن. باعتبار أن الوصول لأوضاع أوروبا الغربية أمر خيالى إلا إذا حدثت معجزة.