تأتى خطة الإدارة الأمريكية المقترحة من قبل دونالد ترامب بشأن قطاع غزة فى لحظة بالغة الدقة من الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، حيث تتقاطع أبعاد الأزمة الإنسانية مع الضغوط السياسية والأمنية، وهو ما يجعل من أى مقاربة لإعادة الإعمار والاستقرار فى غزة اختبارًا صعبًا للقدرة على التوفيق بين الطموح العملى والواقع الميدانى.
تحمل الخطة رؤية شاملة لإعادة بناء القطاع ووقف دوامة العنف، لكنها تواجه تحديات جسيمة تتعلق بتنفيذ تدابيرها الأساسية وعلى رأسها ضمان التزام إسرائيل بعدم اللجوء إلى القوة عند بدء سريان وقف إطلاق النار وتطبيق الإجراءات المتبادلة وضمان نزع سلاح حماس، فضلًا عن الحاجة لتعاون واضح وملموس من الدول العربية فى إطار الدعم الدولى والأمنى.
تقوم الخطة على أربعة أطر متكاملة تشمل البعد الأمنى، إعادة الإعمار والتنمية، الترتيبات السياسية والإدارية، والدور الدولى والإقليمى، تحتوى مجتمعة على عشرين نقطة رئيسية. فى المجال الأمنى، تؤكد الخطة على إعادة الرهائن الإسرائيليين (الأحياء والأموات) فى مقابل الإفراج عن عدد من السجناء والمحتجزين الفلسطينيين، وعلى ضرورة تشكيل قوة أمنية دولية تتمتع بقدرات مراقبة وتحكم متقدمة لضمان فرض النظام ومنع أى اندلاع جديد للعنف مع التشديد على انسحاب تدريجى للقوات الإسرائيلية وآليات واضحة لنزع سلاح حماس وحركات المقاومة الأخرى وآليات واضحة أيضا للمراقبة المستمرة للحدود والمنافذ وتدريب قوات أمن فلسطينية تحت إشراف دولى». كما تتضمن الخطة ترتيبات لإنشاء وحدات أمنية متخصصة لمتابعة تنفيذ الالتزامات والتعهدات الواردة فيها واحتواء المخاطر المحتملة تسمى قوات الاستقرار الدولية.
فى ميدان إعادة الإعمار والتنمية، تتناول الخطة تأمين الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصحة، وإعادة بناء المدارس والمستشفيات، ودعم المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة لتوفير فرص عمل حقيقية للسكان المحليين. وتؤكد الخطة على شفافية إدارة المساعدات لمنع استغلال الموارد المتاحة من قبل مجموعات مسلحة أو جماعات خارجة على القانون، وهو ما يعد شرطًا أساسيًا لبناء ثقة أهل غزة فى الجهود الدولية والأمنية ويخلق بيئة مواتية لنجاح التدابير الأخرى. كذلك، وعلى العكس الحديث السابق من قبل الرئيس ترامب عن تهجير الفلسطينيين من غزة وعلى النقيض من الرغبة الجامحة لليمين الإسرائيلى فى تطبيق جريمة التهجير، ترفض الخطة تهجير الفلسطينيين وتشدد على البقاء فى القطاع مع إتاحة فرص للتعليم والعمل والرعاية الصحية والنص على حق العودة إلى غزة لمن غادرها أو سيغادرها من أهلها (والإشارة الأخيرة هذه غامضة وغير مريحة).
• • •
أما الجانب السياسى والإدارى، فيعكس رغبة فى إعادة هيكلة الحوكمة المحلية فى غزة بما يضمن استقلالية الإدارة المدنية عن أى نفوذ مسلح من خلال تشكيل لجنة مستقلة لحكم القطاع تشرف عليها لجنة دولية مستقلة يشارك فيها الرئيس ترامب ومع إشراك مؤسسات المجتمع المدنى فى مراقبة الأداء وتقييم نتائج تقديم المساعدات الإنسانية وجهود إعادة الإعمار والبرامج التنموية. تتضمن الخطة أيضًا آليات لتسهيل التنسيق بين اللجنة المستقلة فى غزة وبين الأمم المتحدة ووكالاتها والهيئات الدولية مع ضمانات قانونية وسياسية واضحة لحماية حقوق الفلسطينيين بما يعزز من شرعية القبول الشعبى للخطة واللجنة وكافة التدابير المطبقة.
أما البعد الإقليمى والدولى، فيستند إلى مشاركة مصر والأردن والولايات المتحدة فى تشكيل قوات الاستقرار الدولية التى سيناط بها مهام حفظ الأمن فى غزة والإشراف على التزام الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى بتطبيق تعهدات وتدابير خطة ترامب وتدريب قوات أمن فلسطينية للاضطلاع بمسئولياتها بعد فترة انتقالية، ويستند كذلك إلى اشتراك الدول العربية والإسلامية والأوروبيين فى تقديم الدعم المالى والسياسى والتقنى. وتشدد نصوص الخطة على أن مشاركة الدول العربية والإسلامية والأطراف الدولية يتعين أن تكون مصحوبة يجب أن تكون مصحوبة بتحديد واضح لمسئوليات والتزمات الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى بما يضمن الفاعلية وعدم التعارض ويحمى حقوق أهل غزة. ثم تختتم نصوص الخطة بالإشارة إلى أن إنهاء الحرب فى غزة واستعادة الأمن ونزع السلاح وفرض الاستقرار فى إدارتها مع التزام السلطة الوطنية الفلسطينية بتطبيق برامج محددة للإصلاح قد يفتح الباب إلى تفاوض حول الحق المشروع للشعب الفلسطينى فى بناء دولته.
• • •
تتسم خطة ترامب بشأن غزة بالشمول والطموح، وتحظى بدعم الأطراف العربية والإسلامية والدولية الراغبة فى إنهاء الحرب والعمل السياسى والدبلوماسى على استعادة الأمن والاستقرار فى القطاع ومنه إلى بقية الشرق الأوسط. غير أن عقبات التنفيذ المتوقعة كثيرة وجوهرية. من جهة، يمثل ضمان التزام إسرائيل بعدم استخدام القوة بمجرد بدء تنفيذ الخطة وسريان وقف إطلاق النار تحديًا متواصلًا، إذ يحتاج إلى رصد إقليمى ودولى دقيق وتنسيق مستمر ودور أمريكى مستمر لتجنب أى انتكاسات قد تعيد غزة إلى دائرة العنف فورًا. من جهة ثانية، يمثل موقف حماس ومدى قبولها لنزع سلاحها والالتزام بالإشراف الأمنى الإقليمى والدولى تحديًا جوهريًا، خاصة فى ظل عدم تحديد خطوط وتوقيتات واضحة لانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع.
كما أن نجاح الخطة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتمكين مصر والأردن من دعمها، لا سيما فيما يتعلق بتشكيل قوات الاستقرار الدولية والمشاركة فى إدارة الأمن من خلال تدريب عناصر الشرطة الفلسطينية. هنا سيرتب أى غموض من قبل الطرفين الإسرائيلى والفلسطينى فى الالتزام بالتعهدات الواردة فى الخطة أو أى تردد فى تحديد آليات المساهمة أو الحدود العملية لمسئوليات مصر والأردن والدول العربية الأخرى قد يقوض فعالية الترتيبات الأمنية، ويترك الإدارة المحلية التى ستتولاها اللجنة المستقلة فى مواجهة تحديات معقدة على صعيد الأمن والخدمات الإنسانية.
بهذا المعنى، فإن التوازن بين الطموح والقدرة على التنفيذ هو العامل الحاسم مع الأخذ فى الاعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية سيكون عليها استثمار الكثير دبلوماسيا وسياسيا لضمان التزام إسرائيل بتعهداتها مثلما سيكون على الأطراف الإقليمية كمصر والأردن والسعودية وقطر والإمارات وتركيا العمل مع حماس لكى تلتزم بالشرط الصعب، نزع السلاح. إذ إن كل خطة، مهما كانت سليمة من الناحية الاستراتيجية، تحتاج إلى التزام سياسى إقليمى ودولى مستمر لتحقيق نتائج ملموسة.
• • •
من منظور تقييم عام، تمثل خطة ترامب خطوة فى الاتجاه الصحيح، لأنها تجمع بين البعدين الإنسانى والتنموى من جهة، والأبعاد الأمنية والسياسية من جهة أخرى، وتضع إطارًا لتكامل الدور الدولى والدور العربى فى استعادة الأمن ودعم الاستقرار فى غزة وتفتح هامشا للحل السياسى للقضية الفلسطينية وإن ربطته بإصلاح السلطة الفلسطينية ولم تحدد له لا سياقات ولا توقيتات. غير أن الخطة وفى الوقت نفسه تختبر قدرة جميع الأطراف المعنية على التوافق وتحمل المسئولية، وتبرز الحاجة إلى إدارة دقيقة للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين فى إطار توازنات داخلية (فى إسرائيل وفلسطين) وإقليمية ودولية معقدة.