التقيت منذ سنوات أثناء إقامتى بكندا فى إحدى الحفلات رجل أعمال مصريًا كان فى زيارة عمل إلى مونتريال.
حدثنى عن حبه الشديد لمصر وهيامه بها وعدم قدرته على الابتعاد عنها لفترات طويلة، وقال إنه يمتلك بيتًا كبيرًا على بحيرة ليمان بسويسرا، ويستطيع بعد كل ما حقق فى دنيا المال والبيزنس أن يتقاعد ويستريح خارج مصر، لكن المشكلة أن الحياة فى الخارج على سهولتها تفتقر إلى أشياء يراها أساسية بالنسبة له ولا تحلو الحياة إلا بها.
سألته مثل ماذا؟ قال مثل مشهد عربة البطاطا والأطفال يتحلقون حولها فى سعادة، أو منظر عربة الكشرى وصاحبها يغسل الأطباق فى الجردل والزبائن يلتهمونه فى شهية لا يمتلكها هو شخصيًا، كذلك المشهد الجميل للسيدات والفتيات يغسلن الأوانى على شاطئ النهر أو صبى الفرن يقود الدراجة حاملًا عشرة طوابق من أقفاص العيش فوق رأسه دون أن يختل توازنه.. أين يجد المرء خارج مصر أشياء كهذه؟ هكذا تساءل، قلت له: أراك لا تحن سوى لمشاهد بائسة تمتلئ فقرًا وعدم نظافة وأحس كأنك تخشى على هذا الوطن أن يتقدم وينهض فتضيع عليك متعة الاستمتاع بالمشهد الفولكلورى لمصر فى أتعس أحوالها.
تذكرت هذا الرجل وأنا أجلس فى فرح شعبى بحارة صغيرة فى قلعة الكبش تلبية لدعوة صديق قديم يزوج ابنته، وسرحت فى مقدار المتعة التى فاتت هذا الرجل وصورة المعازيم يجلسون فى مجموعات صغيرة.. مجموعة تتداول الجوزة المغمسة بالحشيش ومجموعة مع صاروخ بانجو ما إن يخبو حتى يشتعل غيره، والجميع يحتسون البيرة وما تيسر من الخمور الرديئة ماركة رأس العبد وسط الرقص والزغاريد، والعريس يتناول صواريخ البانجو تحية من أصدقائه فيما تنظر إليه عروسه نظرات عاتبة لا تلبث أن تغيب مع نكتة فاحشة يتلقاها العروسان من أحد الأصدقاء، بينما هذا الصديق يهز ردفيه فى رقصة مهووسة وسط تشجيع الجمهور، وبجواره أكثر من فتاة من فتيات الحارة تستعرضن مهاراتهن فى الرقص البلدى. فى هذا العرس أخذ أحد الشباب يطوف -وكان فمه خاليًا من أى أسنان- على الجالسين ومعه زجاجة مناديًا: حد عاوز يشرب كولونيل؟ معايا مشروب الكولونيل. مِلتُ على مضيفى أسأله عن كنه مشروب الكولونيل هذا فأخبرنى فى خجل بأنه عبارة عن سبرتو صريح!. ثم اعتلت المسرح راقصة عجوز من الواضح أنها عادت من الاعتزال لأسباب قاهرة، وسمعت مَن يقول بأن والد العريس أحضرها "تخليص حق" لأنها ساحبة من بقالته بضاعة شُكُك. بدأت الراقصة تتمايل على أنغام الأكورديونيست المجهد وهو يعزف ويغنى وبين شفتيه سيجارة مخدرات أصبحت رمادا ويأبى أن يبصقها وعيناه نصف مغلقة، وبجواره الطبال منتعشًا وفى حالة نشاط لأنه- كما علمت- تناول برشامًا مطحونًا لزوم الصهللة.. ثم افتتح أحد الرجال باب النقوط وبدأ الصعود للمنصة ونثر السلامات والتحيات للجدعان والمنطقة، والجزمجية ملوك النعل، والسمكرية عفاريت الصاج والنقاشين أساتذة الفن التشكيلى.. واللى يحبنا ما يضربش نار. أبلت الراقصة بلاء حسنًا بالقياس لظروفها الصحية، وحصدت قدرًا لا بأس به من الجنيهات، ثم بدأت تسأل عن العشاء بصوت عالٍ فى الميكروفون، فتعالت أصوات النسوة أصحاب الفرح: «أنزلوها لتأكل.. تعالى يا ولية بلاش فضايح». نزلت الراقصة وصعد شاب حليق الرأس يرتدى سترة جلدية لا تسعفه قدماه ويكاد يهوى من شدة السكر وأمسك بالميكروفون. لاحظت تشجيعًا فوق المعتاد: «قشطة عليك يا دكتور.. سألت من يكون؟». أجابونى إنه أحمد قوطة زينة شباب المنطقة، خريج قسم فلسفة منذ 10 سنين، الأول على دفعته، يكتب الشعر وكان يحلم بالتعيين معيدًا بالجامعة لكنهم تجاوزوه، الأهالى يحبونه ويلقبونه بالدكتور، لم يجد عملًا حتى الآن.. يلعب شطرنج بالقهوة معظم الوقت. أمسك بالميكروفون وأخذ يغنى خليطًا من كل شىء، وزجاجة البيرة فى يده يعب منها ويواصل الغناء، ثم توقف فجأة وقال للفرقة: «سمعنى سلام نشرة الأخبار.. وسلام للولية، الحلوة أم ليّة، وسلام لعمر أفندى وحسن بشندى وانت ودماغك فى اليوستفندى، سلام للريادة وسلام لأزهى عصور السعادة، سلام للطهارة وسلام للمِطاهر، سلام لأم مدحت وبرضو أم طاهر.. ورقصنى يا اسمك إيه». بعد ذلك انطلق فى وصلة رقص ثم توقف، قائلًا: «عارفين ماذا قال سقراط لأصحابه لما حاولوا يهرّبوه وينقذوه من حكم الموت اللى صدر ضده؟ قال إيه يا دكتور؟ وضع زجاجة البيرة جانبًا، واكتست ملامح وجهه جدية مفاجئة، وبدا أنه يجاهد السكر البيّن كما يجاهد دموعًا ملأت عينيه، وقال كأنه يقرأ من كتاب: رفض أن يهرب لأنه لم يقبل أن يخرج على قوانين المدينة، تلك التى عاش يعلم تلامذته أهمية احترامها، ورأى أنّ موته يعتبر ثمنًا رخيصًا فى سبيل صيانة القانون وتطبيقه على الجميع حتى لو ظلمه.. فاهمين؟ بعدها تقلصت ملامح وجهه وأخذ يبكى بصوت مسموع، وأمسك بزجاجة البيرة وكسرها ثم فاجأنا جميعًا وأخذ يشرط رأسه بحافة الزجاجة الجارحة فتفجر الدم وأغرق وجهه بين دهشتنا وصرخات النساء فيما أخذ يقول: «دا مش دم ما تخافوش.. أنا كويس.. المهم قوانين المدينة.. فاهمين.. قوانين المدينة».
بعد أن غادرت المكان وركبت سيارتى كانت الرؤية غائمة أمامى، لأنى كنت أنظر للطريق من خلال دموعى. ليت رجل الأعمال الذى يحب الصور الشعبية كان معنا، ليمتع نفسه بسهرة أوريجينال مليئة بالفقرات والنمر الفولكلورية التى تجعله يستبعد الهجرة الدائمة، مهما قست عليه الظروف.