إنقاذ سوق المال المصرية - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 2:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إنقاذ سوق المال المصرية

نشر فى : الإثنين 6 يناير 2020 - 10:15 م | آخر تحديث : الإثنين 6 يناير 2020 - 10:15 م

منذ أيام احتفلت الهيئة العامة للرقابة المالية بمرور عشر سنوات على إنشائها. أذكر أن مشروع تدشينها قد اقترن بالترويج لفكرة المنظّم المنفرد single regulator السائدة فى بريطانيا آنذاك، وهى الدولة الأكثر تأثيرا حينها على دائرة صناعة القرار الاقتصادى، حيث درس معظّم المنتمين إلى تلك الدائرة فى إحدى جامعات المملكة المتحدة أو مدارسها. لكن حقيقة الأمر أننا لم نطبق أبدا نموذج الرقيب أو المنظّم الأوحد، وذلك لأن الرقابة على سوق النقد والبنوك مازالت (والحمد لله) تحت ناظرى البنك المركزى المصرى، ومن ثم فقد فطن الجميع بعد دراسة وإلمام إلى أن ما نطبقه هو نموذج الرقيب المزدوج أو ما يسمى بالقطبين التوءمين Twin Peaks المنتشرة فى استراليا وسنغافورة. تحت هذا النموذج كيانان أساسيان أحدهما معنى بالتنظيم التحوّطى prudential regulatory وهو فى العادة البنك المركزى المسئول عن تنظيم العمل المصرفى الذى يكون بطبيعته أكثر انضباطا وتعقيدا بين الأسواق المالية. والكيان الآخر يكون معنيا بالتنظيم السلوكى conduct regulatory وهو المسئول عن أسواق حقوق الملكية من أوراق مالية وعقود تأمينية وعقود الرهن والمشتقات... يضاف أحيانا فى نموذج الأقطاب التنظيمية المتعددة قطب معنى بتنظيم المنافسة، وهو الذى يشرف عليه فى مصر جهاز حماية المنافسة الذى تناولناه بالنقد والتحليل فى مقال سابق.
كان العالم عند تدشين هيئتنا الجديدة المحتفلة مؤخرا بعيد ميلادها العاشر، قد خرج لتوّه من أزمة الرهن العقارى الطاحنة، واتجهت بريطانيا ذاتها (رغم ما هو معروف عن الانجليز من محافظة) إلى تفكيك الرقيب الأوحد إلى مؤسسات مختلفة، ومنها ما هو مختص بإدارة المخاطر وتنظيم السلوك، وذلك تفاديا لتكرار الأزمة العالمية.. وقد واجهت هيئتنا الرقابية فضلا عن تحديات التحوّلات العالمية، تحديات خاصة ومحلية مدارها صعوبة التوفيق بين مستويات وهياكل الأجور والرواتب للهيئات المندمجة، واستُهلك فى سبيل ذلك الكثير من الوقت والجهد دون مبرر! لكن المسائل التنظيمية الإدارية تخطت ما هو محبط للعاملين فى الهيئات الرقابية المندمجة وهى هيئات سوق المال، والرقابة على التأمين، وشئون التمويل العقارى، إلى أزمة هوية وهدف للهيئة الرقابية، حتى أن اسمها نفسه وشعارها المميز قد تغيّرا فى الترجمة خلال فترة قصيرة من نشأتها الحديثة! وعلى الرغم مما لذلك من إشارات مربكة للأسواق المحلية والعالمية، فإن أزمة الهوية المؤسسية قد تجسّدت فيما هو أكبر من ذلك، فقد اختفت الرؤية الاستراتيجية للهيئة العامة للرقابة المالية خلف غابة من التشريعات والقرارات التى يعتقد الكثيرون أنها فصّلت تفصيلا للتعامل مع مؤسسات بعينها، بل ومع أفراد بعينهم، متخلية بذلك عن سمتى العموم والتجرّد اللازمتين للقاعدة القانونية. والقواعد التى تتغيّر باستمرار تفقد أى لعبة متعتها، وحين تعلو صافرة الحكم على الجمهور طوال المباراة، وبشكل هيستيرى فإنه يفقد مصداقيته، ويفقد السيطرة على اللاعبين بعد أن يفسد المباراة كلها ولا يخرج منها أى فائز!. هكذا هى حال الرقيب والمنظّم المالى، كلما كان موفّقا ذكيا فإنك لا تكاد تشعر بوجوده فى السوق، تماما كما تعمل اليد الخفية فى اقتصاد السوق، وهل هناك انعكاس للنظرية الرأسمالية أكثر وضوحا من أسواق رأس المال؟!
***
القطبان التوءمان فى مصر ليسا توءمين على الإطلاق، بل لا يشبه أحدهما الآخر! فالبنك المركزى يفهم طبيعة الدور المنوط به لتنظيم الأسواق على نحو أفضل بكثير. يحض بقراراته وإجراءاته على خلق الائتمان، وحفز النشاط الاقتصادى، والمرونة فى التعامل مع صغار المتعثّرين، وتشجيع التمويل المتوسط والصغير ومتناهى الصغر، واستخدام أدوات التيسير الكمى... مستهدفا تحقيق الاستقرار المالىfinancial stability وضبط الأسعار. القطب الآخر أيضا يجب أن يضع سياسة وأهدافا فى مقدمتها تحقيق الاستقرار المالى. يجب أن يقرأ المشهد الاقتصادى بصورة أكثر حيادا وتجرّدا وانتصارا للمستثمرين. الشعار الذى تتبناه أشهر وأهم هيئة رقابية منظّمة للأوراق المالية فى العالم وهى الهيئة الأمريكية SEC Securities and Exchange Commission هو ببساطة «نحن محامى المستثمرين». وفى سبيل الدفاع عن المصالح الواسعة لعموم المستثمرين تختفى تماما جميع المصالح الضيقة للرقباء، تذوب النزاعات الشخصية، ولا يبقى سوى ما يحقق الاستقرار المالى ومصالح المتعاملين بنزاهة وشفافية.
إذا توافرت النزاهة والشفافية فى الضمائر دون أن يستشعرها الأطراف المتعاملون فى الأسواق فكأنها غير موجودة. إذا اهتزت الثقة فى منظّم السوق ورقيبه فإن استردادها يكون مستحيلا إلا بتغيير من كان سببا فى اهتزازها. الرقيب الحكَم كالقاضى، عليه أن يتنحى فورا إذا استشعر الحرج، وإذا ظن «بعض» المحتكمين إليه أنه يميل بهواه بعيدا عن الإنصاف. وإذا كانت الهيئة الرقابية محامى المستثمر فهى تحرّك الدعاوى القضائية طوال الوقت ضد المتلاعبين والمخالفين، لكنها أبدا لا تضع نفسها طرفا فى نزاع خاص على نحو يفقدها الهيبة والحيدة.
***
أذكر ورقة عرضت فى إحدى جولات منظمة IOSCO المعنية بالجهات التنظيمية فى أسواق المال حول العالم، وكنت أمثّل البورصة المصرية (ومن قبل بورصتى القاهرة والإسكندرية) فى إحدى لجانها، ولخّصت الورقة أهم عناصر النجاح فى الأسواق المالية فى خمسة عناصر تبدأ جميعا بحرف P ولذا سميت 5 ps وهى ببساطة: الأشخاص people المنتجات products السياسات policies الضوابط الحاكمة prudential and conduct regulations منصة تعاملات platform.
الأشخاص هم البائعون والمشترون والوسطاء وصناع السوق للأصول المالية، وهم الأفراد والمؤسسات الذين يمثلون قوى العرض والطلب فى أى سوق. ومن المعلوم أن ثمة تراجعا مقلقا فى أعداد المتعاملين بل والمكوّدين فى البورصة المصرية. وهناك شطب اختيارى لعدد كبير من الأوراق المالية، وتحوّل المؤشر الرئيسى إلى مؤشر الورقة الواحدة هو أيضا تأكيد على ارتباك المشهد، وخروج الاستثمارات من سوق رأس المال. كذلك تمطرنا صفحات المال والأعمال فى الجرائد يوميا باستياء فئات مهمة فى أسواق حقوق الملكية التى تشرف عليها الهيئة العامة للرقابة المالية، من ممارسات قدّروا أنها مجففة للسيولة ومثبّطة للاستثمار. هنا بنوك استثمار وشركات وساطة فى الأوراق المالية تخوض معارك لا نهاية لها مع الرقيب، تستنزف طاقتها فى المحاكم ولجان التظلمات عوضا عن جذب المستثمرين والعناية بالسيولة. وهناك سماسرة التأمين يحتجون على قرارات بالإفصاح عن عمولاتهم، وهؤلاء مانحو التمويل العقارى يعانون أزمة ائتمانية إذ لم يقدموا طوال عشر سنوات إلا 10,7 مليار جنيها! بينما يعتبر السوق العقارية الأكثر نموا وجذبا للاستثمار فى مصر!... الشواهد كثيرة على أن وتيرة النمو الاقتصادى ومؤشرات برنامج الإصلاح الاقتصادى تسير ببطء شديد فوق قضبان هيئة الرقابة المالية ومؤسساتها التابعة خاصة فى أعوام ما بعد ثورة يناير 2011.
المنتجات التى يمكن لسوق المال غير المصرفية أن تهضمها كثيرة ومتعددة، لكنها لم تتطوّر أبدا طوال عشر سنوات، بل إن استحداث بعض المنتجات مثل صناديق المؤشرات، وبعض الأدوات مثل الشراء بالهامش وبيع الأسهم المقترضة، وبيع الأسهم المشتراة خلال الجلسة، والحقوق... وغيرها من منتجات وأدوات تم الإعداد لها قبل عام 2009 وتم العمل على تقييدها وتكبيلها بضوابط أفرغتها من خصائصها الجاذبة للمستثمرين خلال الأعوام التالية على 2011 لتُقدّم باردة بطيئة غير فاعلة فى إناء فارغ من السيولة، مما أضعف الثقة فى تقديم منتجات وأدوات جديدة إلا بغرض الاستعراض. لا نتحدث هنا عن منتجات جديدة فى صورة أسهم حديثة الطرح لأننا نعرف جميعا مصير الطروحات العامة الحديثة ونسب تغطيتها من مقال سابق. أما المنتجات الجاذبة للفوائض البترولية مثل صكوك التمويل المتوافقة مع أحكام الشريعة، والمنتجات الجاذبة لفوائض الاستثمار العقارى والتى يمكن هندستها، ومشتقات البورصات السلعية.. فكلها حبيسة الأدراج وليس هناك نية لإطلاقها بجدية.
السياسات التى يجب أن تتبناها الهيئات المنظمة للأسواق ينبغى أن تكون ضابطة لنزاهة السلوك وحيوية التعاملات، مانعة للتلاعب، مؤْثِرة للفئات الأكثر تعاملا، واعية للتغيرات.. محققة للاستقرار المالى. ولا توضع العربة أمام الحصان، فالسياسات تخلق لها التشريعات والإجراءات وليس العكس. ومن أسف أنى شخصيا، وكنت أحد أقدم المشرفين على إدارة مركزية بالهيئة، لا أعرف السياسات المرجو تحقيقها من قبل القائمين على تنظيم أسواق المال غير المصرفية حاليا، والتى ينبغى أن تخدمها النصوص المنظمة!.
وإذا كانت السياسات مجهولة وغير مسوّقة، أو على الأقل غير قائدة للضوابط الحاكمة للسلوك فإن أيا من تلك الضوابط لا يكون له مقصد تشريعى واضح، بل إن فلسفة التشريعات تصبح عبثية، وتتداخل ثم تتضارب النصوص على نحو يضع جميع اللاعبين تحت مرمى نيران الرقيب، ويجعل من المستحيل ألا تقع فى الخطأ. بل إن فتح الباب للاستثناء فى كل قاعدة ــ تقريبا ــ تجعل مرضاة الرقيب مقدمة على ممارسة النشاط، وهو ما لا تقبله المؤسسات الكبرى ويفر منه المتعاملون المحترفون.
منصة التعاملات الأهم هى سوق التداول الثانوى (البورصة) وقد توقّفت عجلة التطوير فى البورصة منذ سنوات وفقدت كثيرا من عناصر الجذب للمستثمرين والشركات المقيدة، وكانت مواكبة التطوير تقوم أساسا وحتى عام 2010 على لجنة استشارية دولية تضم فى عضويتها أعلاما من قيادات البورصات العالمية وبنوك الاستثمار. بل إن اللوائح المنظمة للعاملين داخل البورصة شهدت ردة غير مسبوقة بعد صارت طاردة للكفاءات ومقيدة للإبداع، حتى صارت الوظائف القيادية حكرا على من أمضى عددا كبيرا من السنوات فى مجال العمل! وفقد الشباب الذين هم قوام أسواق المال شغفهم وانطفأت جذوة إبداعهم بعد أن وجدوا أنفسهم فى صف روتينى لتحقيق وتقدير ذواتهم. بالتأكيد لا مجال للحديث عن منصة تعاملات محققة لسهولة ومرونة العمليات فى الأسواق إذا جهلنا السياسات، وخصصّت وانحازت الضوابط واللوائح والقرارات، فالعناصر الخمسة التى استعرضناها يجب أن تتوافر مجتمعة لسلامة أسواق المال، وغياب أحدها أو تراجعه له عواقب وخيمة، فما بالنا بتراجعها مجتمعة؟! الإجابة يجب أن تكون سريعة حكيمة وفى مصلحة الاقتصاد الكلى والاستقرار المالى الذى لا يُدرك إلا بتضافر عمل المؤسسات المالية كلها لحفز النشاط الاقتصادى بعد دراسة واعية.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية

الاقتباس
إذا توافرت النزاهة والشفافية فى الضمائر دون أن يستشعرها الأطراف المتعاملون فى الأسواق فكأنها غير موجودة. إذا اهتزت الثقة فى منظّم السوق ورقيبه فإن استردادها يكون مستحيلا إلا بتغيير من كان سببا فى اهتزازها.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات