فى فهم أسباب التضخم الذى يجتاح الأسواق فى مصر، اشتد الجدل بين المؤكدين على أنه مدفوع بعوامل العرض، وأولئك المعتقدين أن عوامل الطلب هى المحرك الأساس لارتفاع الأسعار.
أما الفريق الأول فمدار حجته قائم على صدمات سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار الطاقة ومدخلات الإنتاج، التى أعقبت التعافى من أزمة كورونا. كذلك ينحاز الفريق الأول إلى أن أثر تمرير سعر صرف النقد الأجنبى إلى تكاليف الإنتاج والفرصة البديلة للاستيراد قد أدى إلى ظاهرة تعرف بالتضخم اللزج sticky inflation. وأما الفريق الثانى فيتمسك بأن سبب التضخم هو زيادة المعروض النقدى المشفوع بالأساس بزيادة طباعة البنكنوت، وطفرات الطلب المقترنة بالتعافى من إغلاقات الجائحة، والنمو غير الطبيعى فى السكان، من خلال ارتفاع أعداد المهاجرين إلى الداخل، مما شكّل عنصرا ضاغطا على الطلب المحلى على السلع والخدمات.. وإذا كان كلا الفريقين على حق، فإن ترجيح وزن أى من الأثرين يتوقف عليه صياغة العلاج المناسب لمرض التضخم. مثلًا إن كانت ضغوط جانب العرض هى السبب، فإن سياسة التشديد النقدى القائمة على رفع أسعار الفائدة لن تؤدى إلى أى نتيجة فى كبح التضخم، بل على العكس ستؤدى إلى مزيد من الرفع فى تكاليف الإنتاج، من خلال رفع الفائدة البنكية على القروض، وهو ما يزيد من التضخم. على النقيض من ذلك، فإن ترجيح عوامل الطلب تعمل فيها روشتة التشديد النقدى بشكل فعال.
• • •
إذا كنا قد تناولنا هذا الموضوع فى مقالات سابقة، كما تناولنا معه التضخم الحلزونى الذى يتسبب فيه ارتفاع الأجور، فقد آن الأوان إلى أن نوضح أن سببا آخر للتضخم يمكن إضافته إلى عوامل العرض والطلب، ألا وهو التوقعات الرشيدة. ومدرسة التوقعات الرشيدة هى نظرية اقتصادية تفترض أن الأفراد والمؤسسات يتخذون قراراتهم بناء على كل المعلومات المتاحة لديهم، بما فى ذلك السياسات الاقتصادية والتوقعات المستقبلية. هذه النظرية تعتبر أن الأفراد يتوقعون بشكل صحيح تأثير السياسات الاقتصادية على الاقتصاد، وبالتالى يتصرفون بطريقة رشيدة لتحقيق أفضل النتائج الممكنة.
بيانات التضخم السابقة هى ذاتها تيار دافق من المعلومات التى يقرأها الأفراد والمؤسسات، ويتخذونها أساسًا لتوقعاتهم المستقبلية بخصوص التضخم. وقد أثبتت دراسات حديثة، تضمنتها أوراق نشرها صندوق النقد الدولى، أن التوقعات تسهم بشكل كبير ومعنوى فى تحديد معدلات التضخم المستقبلية بالدول المتقدمة (ذات الأسواق المتمتعة بالكفاءة المعلوماتية)، وأن الاقتصادات النامية والناشئة تؤثر فيها التوقعات بدرجة أقل وإن كانت معنوية. لكن ذات الدراسات أكدت على أن أثر التوقعات يزيد فى مختلف الدول مع استمرار معدلات التضخم مرتفعة بشكل كبير لفترات طويلة (تضخم لزج). وإذا كانت مصر قد شهدت معدلات تضخم شديدة الارتفاع منذ قرار التخفيض الكبير للجنيه مقابل الدولار 6 مارس 2024، والذى سبقته شهور من التضخم المنفلت منذ ديسمبر 2022 على الأقل، فإن هذه الفترة الطويلة من تجاوز معدلات التضخم 20%، وبلوغ التضخم العام مستوى 38% فى سبتمبر 2023 قد شكّلت التوقعات المستقبلية لمعدلات التضخم بمستويات شديدة الارتفاع، حتى مع رفع أسعار الفائدة وعمليات امتصاص السيولة (عمليات السوق المفتوحة)، ومحاولات الحد من الإنفاق الحكومى (التى لا أصفها بالتقشف). وتلك التوقعات تسهم فى التأثير على قيمة العملة الوطنية وسلوك الأفراد والمؤسسات تجاه تخزين السلع والحد من الادخار الذى تفقد معه المدخرات قيمتها بفعل التضخم الجامح.
• • •
كذلك يؤدى ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلى الإجمالى إلى دفع التوقعات تجاه ارتفاع معدلات التضخم، نظرًا لزيادة شكوك الأسواق فى عدم استقلال السياسة النقدية، وتأثرها سلبا بتدخلات السياسة المالية بضغط من ارتفاع قيد الدين، وانخفاض الحيز المالى فى الموازنة العامة. أى أن زيادة قيمة الديون تقود التوقعات أيضًا فى اتجاه يعقّم من تأثير وفعالية السياسة النقدية. هنا يجب أن يتم دعم السياستين النقدية والمالية بقرارات وإجراءات تعزز من الثقة فى المؤسسات، وقد تمتد تلك الإجراءات إلى تغيير الحكومات، خاصة إذا كان تواصلها مضطربًا مع الشعب ممثلًا فى مجالسه النيابية، ونقاباته المهنية ومختلف تنظيماته.
• • •
تؤثر التوقعات الرشيدة بشكل كبير على أسعار الصرف، عندما يتوقع الأفراد والشركات تغييرات فى السياسة النقدية أو الاقتصادية، فإنهم يتخذون قرارات استثمارية وتجارية بناءً على هذه التوقعات. على سبيل المثال: إذا توقع المستثمرون أن البنك المركزى سيستمر فى رفع أسعار الفائدة، فقد يزيد الطلب على العملة المحلية، مما يؤدى إلى ارتفاع قيمتها مقابل العملات الأخرى. وإذا توقع الأفراد ارتفاع التضخم، فقد يقللون من حيازتهم للعملة المحلية، مما يؤدى إلى انخفاض قيمتها. كذلك تؤثر توقعات الأداء الاقتصادى للدول على قرارات التجارة والاستثمار، فإذا توقع المستثمرون أن اقتصاد دولة ما سينمو بسرعة، فقد يزيد الطلب على عملتها، ما يؤدى إلى ارتفاع قيمتها. بالتالى، تلعب التوقعات الرشيدة دورًا حاسمًا فى تحديد أسعار الصرف من خلال تأثيرها على قرارات الأفراد والشركات فى السوق المالية.
أما عن تغيرات أسعار صرف الدولار الأمريكى تأثرًا بالتوقعات الرشيدة، فإنه يصعب تصوّر انخفاض الدولار أمام الجنيه المصرى فى أى مستقبل قريب. ستنشأ توقعات الأفراد والشركات على أساس اتجاه عام لسعر الدولار لم يتوقف عن الارتفاع طوال سنوات وربما عقود، وإن كانت وتيرة الارتفاع فى السنوات الأخيرة كانت كبيرة واستثنائية (خاصة منذ برنامج الإصلاح الاقتصادى مع صندوق النقد نهاية عام 2016). وإذا نظرنا إلى تلك الفترة الزمنية فسوف نجد معدلات الدين العام قد شهدت خلالها طفرات كبيرة، وصل معها النمو السنوى فى الدين العام الخارجى إلى ما يزيد على 70% فى عام واحد! الأمر الذى يدفع التوقعات نحو الشك فى استقلال السياسة النقدية، ناهيك عن فاعليتها ومرونة استجابة الاستثمار لها، ويعزز من الضغط على الدولار بغرض التحوّط والمضاربة.. وكل ذلك يرفع من قيمة الدولار أمام الجنيه، والتى تجاوزت خلال الأشهر منذ مارس الماضى وحتى اليوم نسبة 64,45%!
التوقعات الرشيدة تقيّم رشادتها إذن بمدى ارتباطها بالمعلومات المتاحة فى الأسواق، وليس بمثالية التوقّع أو تحقيقه للصالح العام أو أية مقاربة قيمية مشابهة. فالتوقعات تخفق وتصيب، لكنها صائبة فى المتوسط، تتأثّر بالمعلومات وتصنع معلومات جديدة تؤثر بدورها على حركة الأسعار فى الأسواق. ولأن أسواقنا عادة ما تكون بعيدة عن الكفاءة «معلوماتيًا» فإن توقعاتنا تتأثّر سلبًا بالقيد المعلوماتى، ومن ثم فإن انكشاف المتغيرات الاقتصادية للشائعات والأخبار الكاذبة والدعاية السلبية (المغرضة فى كثير من الأحيان).. كلها تقود التوقعات إلى مسار محتوم نحو مزيد من الضعف السوقي. يتعيّن على الدولة إذن أن تعمل جاهدة على تحسين تدفق وكفاءة المعلومات وحمايتها، حتى تعكس الأسعار (بما فى ذلك أسعار الفائدة والأجور والأصول والسلع..) المعلومات المتاحة، ويتحدد السعر التوازنى الذى يلتقى عنده العرض والطلب عند مستوى أقرب إلى القيمة بعيدًا عن الفقاعات والانحرافات.
فى هذا السياق، أحيى البنك المركزى على إتاحته لكثير من البيانات المحدّثة على موقعه الإلكترونى، كما أحيى مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار على مساهماته الجادة فى تحسين البيئة المعلوماتية فى البلاد، ولعبه دورًا هامًا كمركز أفكار حكومى غير متحيز. وأدعو الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن يطوّر موقعه الإلكترونى ويحدّث بياناته، حتى لا يترك فجوة معلوماتية، يضطر معها أصحاب المصلحة، من المتعاملين فى الأسواق، إلى سدّها عبر مصادر معلومات تفتقر إلى المصداقية والموثوقية.