فى رسم الخطى - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الإثنين 16 ديسمبر 2024 3:51 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى رسم الخطى

نشر فى : الخميس 6 فبراير 2020 - 10:25 م | آخر تحديث : الجمعة 7 فبراير 2020 - 10:57 ص

غالبا ما نأخذ المشى كفعل مسلم به أو يكاد أن يكون لا إراديا بينما يجد هؤلاء الذين يبنون الآلات الذكية التى تحاكى أفعال الإنسان أن المشى هو عمل غاية فى التعقيد، ولطالما أعجبت دائما بأن اللغة العربية متأثرة بعمق ببيئتها وأن مصدر الكلمات فيها فعل مرتبط مباشرة بتلك البيئة، ورأيت فى ذلك إمكانية نظرية وفكرية كبيرة كما رأيته مرتبطا بما قرأت لميشيل دى سورتوا فى كتابه الرائع ممارسة الحياة اليومية وكيف أن فعل المشى له القدرة على صناعة البيئة والمدينة التى نعيش فيها من خلال مراكمة الخبرات مع العمران من حولنا وترك كل منا أثاره المخفية أو طيفه فى الأماكن التى يرتادها أو يمر بها، وأردت أن أختبر هذه الإمكانية للمشى من خلال بعض المقررات التى تتيح لنا فيها الجامعة بعض الحرية لكى نستكشف ونجرب.
***
أول محاولة للتعامل مع المشى كفعل بجدية لم تكن ذات نتيجة رائعة لأسباب ليست فى متناول يدى، ولكنى خرجت منها بسجلات للطالبات والطلبة عن خبراتهم اليومية مع المدينة وكان بعضها رائعا، لكن فى المحاولة الثانية التى كانت بعد المحاولة الأولى بعام والتى أسميتها «عبور المدينة» وضعت المشى فى قلب استكشاف العمران فى القاهرة؛ حيث الفكرة الرئيسية هى الكشف عن بعض طبقات المدينة المتراكمة عبر السنين من خلال السير الذى ليس هو فقط فعلا رياضيا ماديا ولكنه أداة تمكن العقل من العمل بصورة أفضل من خلال ربط الحواس المختلفة للإنسان معا، فهذا الفعل البشرى المركب، ليس فقط عضليا وعصبيا ولكن حسيا وعقليا، يحول المكان الجغرافى المنتج بواسطة التصرفات والأنماط المختلفة للجماعة فى المدينة إلى حيز حى نتيجة المرور والتفاعل معه، وهذا التحول يولد الذكريات التى بطبيعتها شخصية ولكنها هى التى تصنع روح المكان المعين فى المدينة.
اقترحت فى هذه المرة أن نتعامل مع المشى كفن أو كفعل له إيقاع، فكانت بداية المسير بجوار ما يسمى بحائط الغراب فى الجزء المستوى من الهضبة أمام الهرم الأكبر وكان الهدف الوصول لبداية مدينة القاهرة الجديدة. ووعدت طلبتى أن من سيكمل المشى معى سيكون من حقه كوب قهوة فاخر (أضفت عليه فى النهاية قطعة حلوى لمن يرغب). كما يظهر من الخريطة كانت خطتنا طموحة، وكان تصورى لتحويل المشى إلى ما يشبه الفن الإيقاعى (أيضا لأغراض عملية لكيلا ينهار طلبتى مثلا)، فنحن نمشى لمسافة معينة ثم نتوقف للنقاش (فى أى مكان متاح سواء على رصيف أو ما شابه) وفى هذه الوقفة نناقش ما شاهدناه. ثم نستأنف المسير لمسافة أخرى ثم نتوقف مرة ثانية. ثم أخيرا مسافة ووقفة ثالثة فى كل بداية حاولت قدر الإمكان ربطها بمعلم للمكان مثلا بجوار النخلتين القريبتين من الشارع الفلانى (شكرا لجوجل على تسهيله مهمتى) وقمنا بذلك كل أسبوع لثلاث مرات ثم كان الأسبوع الرابع وقفة للنقاش قد تكون فى مركب فى النيل أو فى ساحة القلعة أو غيرها.
***
فى خلال المشى طلبت من طالباتى وطلابى رصد المبانى بأنواعها التاريخية أو الرسمية أو الغير رسمية. كما طلبت منهم رصد الآلات المتحركة مثل السيارات، الدراجات النارية، الدراجات وأنواعها (رصدنا التوك توك مثلا) وأخيرا طلبت منهم رصد الكائنات الحية مثل الأشجار والحيوانات (كلاب، قطط، حمير، أو أى أنواع أخرى) وبالطبع البشر. كما شجعتهم على رصد الملاحظات الشخصية عن الأماكن والناس الذين مررنا بهم. وبالتوازى مع ذلك طلبت منهم قراءة جزأين من بعض الكتب ذات الصلة.
فى مركبة صغيرة كدنا نطوف حول جزيرة الروضة بالكامل ورأينا بعض الطيور المهاجرة فى شاطئ النيل أو بالقرب منه وجلسنا فى ساحة القلعة لنستمع لمحاضرة لإحدى الباحثات عن المشى كوسيلة للتنقل. تسلقنا هضبة المقطم مشيا قادمين من ميدان السيدة عائشة وأحس كل عضو فينا بهذا الارتفاع الكبير. ومشينا ما يزيد عن عشرة كيلومترات فى نهاية مسيرنا لأننا كنا فى منطقة خشينا فيها من توقفنا. تعلمت شخصيا الكثير من تلك التجربة وأعتقد أنها كانت مفيدة لطالباتى وطلابى الذين قاموا برسم قطاع عرضى للقاهرة من الهرم الأكبر غربا للقاهرة الجديدة شرقا وهى مسافة تقترب أو تزيد من الثلاثين كيلومترا. ويرسم خط القطاع ما تسلقناه صعودا وما نزلناه هبوطا وإلى أى مسافة نرتفع عن سطح النيل الذى يستمر فى الجريان شمالا صوب بحر يريد أن يمتزح به. وأصبح القطاع راسما ليس ببساطة خط متعرج عبر المدينة ولكنه رابطا بالجوانب العديدة التى مكنت لهذا المكان أن يصبح حيا. وحاولنا وللأسف بغير نجاح تحويل هذا الرسم الذى يزيد طوله عن الستين مترا إلى عمل فنى عام يمكن أن يوضح للمهتمين بالعمران ولغيرهم الكثير عن مدينتنا. ولكنى مستمر أيضا فى تجربة واستكشاف إمكانات المشى فى لفت أنظارنا لما حولنا بصورة أعمق. وستحاول طبعا أن تختار تلك المسارات التى هى ليست فقط الأقصر ولكن الأقل تلوثا والأكثر اخضرارا وظلالا.
***
ما أجده مثيرا أو فاتنا فى المشى هو ذلك الإيقاع المتمهل الذى يمكنك من التفكير والتأمل فى الكثير سواء مما حدث فى يومك أو ما يمكن أن يحدث أو من الارتباط ولو لحظيا بما حولك، ويمكنك من سماع أصوات الطيور كما يزعجك بما لا تحب أحيانا أو يفاجئك صوت لشخص يتمرن على آلة موسيقية (يحدث فى مصر صدقونى) لم أتمكن أبدا من رؤيته، وقد تكون أكثر حظا لترى بعض هؤلاء الرحماء الذين يوفرون القليل من الحب والعطف لبعض كلاب الشارع وأحيانا أيضا ترى تلك السيدة التى تضع أكلا للقطط ثم ترى ذلك الكلب الذى دفعه جوعه أن ينتظر حتى تمضى تلك السيدة العطوف لكى يشارك أو يستولى على أكل هذا المخلوق الأضعف منه. وبينما تترك خطواتنا أثارها المرئية أو غير المرئية على المدينة، وتترك المدينة أثارها الدائمة على عقولنا وأرواحنا والتى إن ازداد جمالها ولطفها ازددنا نحن أيضا من ذلك.

 "الخريطة الخاصة لـ"عبور المدينة" والتى توضح الخطى التى رسمناها من الصحراء الغربية للصحراء الشرقية"

التعليقات