فى خلال السنوات الماضية، كانت تطورات الذكاء الاصطناعى تأتى فى إطار تحليل متطلبات ما تُعرف بالثورة الصناعية الرابعة وآثارها، ولكن بعد تسارع تطبيقاته فى التأثير المتزايد فى مضامير السلم والحرب والتنمية والتدمير، انصب الاهتمام مؤخرا على الذكاء الاصطناعى كثورة غير مسبوقة الآثار فى حد ذاتها. فقبل الذكاء الاصطناعى كانت الآلة مجرد معين على إنجاز العمل بتكرار مهام محددة بحجم أضخم وسرعة أكبر. أما بعد الذكاء الاصطناعى فقد اكتسبت الآلة قدرات على الإدراك والتعلم والتصرف محاكية البشر.
نحن بصدد نقلة نوعية من عمليات نمطية للميكنة والأتمتة بإعادة الإنتاج وزيادة الإنتاجية، إلى الارتقاء باستحداث مكونات وإنتاج مبتكرات واقتراح علاجات وسبل للتطوير.
ولا يتوقف نطاق تأثير الذكاء الاصطناعى عند سوق العمل؛ بل يمتد إلى الأمن والسياسة ونظم الحكم واختيار الحكام والثقافة العامة. وعرضتُ فى مقال سابق أنَّ الخطر الأول ــ وفقا للمنتدى الاقتصادى العالمى ــ هو المعلومات المضللة والكاذبة ودور الذكاء الاصطناعى فيها، بانتحال الصفات، وسرقة الهويات، والتلاعب فى المعلومات، واختراق نظم اتخاذ القرار المؤثرة فى الاقتصاد والسياسة والأمن والمجتمع.
كما عقَّد الذكاء الاصطناعى من حماية الأمن السيبرانى ونظم المعلومات المتحكمة فى مرافق حيوية، كالمياه والكهرباء والطاقة وقطاعات المال والنقل، وغيرها. وفى كتاب عن القوة فى زمن الذكاء الاصطناعى، صدَّره مؤلفه بول شار، خبير الدفاع فى «البنتاجون» الأمريكى، بمقولتين: الأولى مقتبسة من الرئيس الروسى فلاديمير بوتين: «الذكاء الاصطناعى هو المستقبل، ليس فقط لروسيا ولكن لكل البشرية. فهو يأتى بفرص عظيمة، وأيضا بتهديدات يصعب التنبؤ بها. من سيقود هذا المضمار سيصبح حاكما لهذا العالم»، والثانية من الرئيس الصينى، ونصها: «العلم والتكنولوجيا أصبحا ساحة المعركة للقوى العالمية المتنافسة».
وفى مجال الاقتصاد، تبارت التقارير والدراسات الدولية فى استكشاف الآثار المرتقبة للذكاء الاصطناعى التى تكاد تُجمع على آثاره الإيجابية على زيادة الكفاءة الإنتاجية وتخفيض النفقات بما يزيد من معدلات النمو والثروات، مع تأثيرات سلبية على توزيع الدخول. وأصدر صندوق النقد الدولى فى شهر يناير الماضى دراسة عن أثر الذكاء الاصطناعى على أسواق العمل. ومن نتائجها أن 60 فى المائة من الوظائف فى الاقتصادات المتقدمة متعرضة لتأثير الذكاء الاصطناعى، بينما كانت هذه النسبة 40 فى المائة فى الدول ذات الأسواق الناشئة، و26 فى المائة فى الدول الأقل دخلا. أى أن الدول النامية أقل عرضة لمربكات الذكاء الاصطناعى بمنافعها ومثالبها. ووجدت الدراسة أنَّ التأثير الإيجابى، من خلال زيادة الإنتاجية، يكاد يتعادل مع التأثير السلبى على سوق العمل بتعرض وظائفه للاختفاء أو تناقص الطلب عليها.
والأمر يتوقف على مدى استعداد الدول للذكاء الاصطناعى وفقا لأربعة عوامل تتمثل فى البنية الأساسية الرقمية، ورأس المال البشرى وسياسات التشغيل، والابتكار والاندماج الاقتصادى، والقواعد الرقابية والأخلاقية والحوكمة. وبتطبيق تصنيف قياسى لاستعدادات الذكاء الاصطناعى على 125 دولة، جاءت سنغافورة فى المقدمة، ثم الولايات المتحدة والدنمارك واليابان وبريطانيا.
وفى تعليق على مصادر النمو المحتمل فى الولايات المتحدة، لم يجد الاقتصادى روبرت هوبارد، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين السابق للرئيس الأمريكى، مصدرا للتفاؤل بالنمو فى بلاده إلا من امتلاكها متطلبات الذكاء الاصطناعى. وهو ما يؤيده فيه الاقتصادى الحائز «نوبل» مايك سبنس فى مقال مشترك نشرته مجلة «الشئون الدولية» (فورين أفايرز) بأنَّ الذكاء الاصطناعى سيضيف 4 تريليونات دولار سنويا للاقتصاد العالمى، بما يعادل الناتج المحلى الإجمالى لدولة بحجم ألمانيا، وأنَّ الولايات المتحدة ستجنى ثمارا فى زيادة إنتاجيتها بفضله مع نهاية هذا العقد، وبآثار إيجابية على جانب العرض تسهم فى تخفيض التضخم. ومن الطريف أنَّ آخر مقالات هنرى كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، نُشرت فى المجلة ذاتها فى عدد شهر أكتوبر 2023، مع غراهام أليسون، وكان عن الجانب المظلم للذكاء الاصطناعى فى سباق التسلح، وضرورة التعاون بين الولايات المتحدة والصين فى منع قيام حرب عالمية ثالثة، بأسلحة أشد فتكا ورعبا من القنبلة الذرية التى كان استعمالها فى مواجهة اليابان آخر أعمال الدمار الشامل التى انتهت بها الحرب العالمية الثانية.
وتشير دراسة صندوق النقد الدولى إلى أنَّ المتعلمين تعليما عاليا وذوى المهارة والأصغر سنا سيتمكنون من المناورة بالانتقال إلى فرص للعمل تستفيد من الفرص الإيجابية التى تتيحها ثورة الذكاء الاصطناعى، وأنَّ الضحايا سيكونون من الأقل تعلما ومهارة والأكبر عمرا.
لا يوجد إلا طريق واحد لتسلكه بلدان الجنوب فى تعاملها مع الذكاء الاصطناعى: وهو أن تكون فى مقدمة الإلمام بمستحدثاته، واستغلال ابتكاراته فى دفع التقدم وتحقيق أهداف التنمية، وعليها أن تتمكن من مستجداته للحفاظ على السلم، والدفاع عن مقدراتها.
وفى مقال تحت عنوان «الإقطاع الرقمى وسادة اقتصاد العالم الجديد»، نشرتُه على صفحات «الشرق الأوسط» الغرَّاء فى شهر أكتوبر 2019، أشرت إلى أنَّ هناك ثلاثة أمور يمكن تبنِّيها فى العالم العربى تحديدا، فى إطار سياسة متكاملة للتنمية والتقدم فى العصر الرقمى: الأمر الأول يتمثل فى تطبيق سياسة متكاملة للبيانات وتأمينها وحماية حقوق ملكيتها، بما فى ذلك حقوق الأفراد الأدبية والمالية عند استخدام بياناتهم، وتطوير نظام عام لحماية البيانات والرقابة عليها. الأمر الثانى، يتمثل فى تطوير البنية الأساسية لتكنولوجيا المعلومات من شبكات ومنصات رقمية ووسائل حفظ البيانات وتأمينها، ودعم نطاقاتها الاستيعابية وسرعاتها باستثمارات ضخمة بالمشاركة بين القطاعين الخاص والحكومى. أما الأمر الثالث، وهو الأهم والأولى، فهو الاستثمار فى البشر تعليما وتدريبا وتوعية، بهدف إتقان علوم الذكاء الاصطناعى. من دون ذلك ستأتى وتنقضى ثورات صناعية وتكنولوجية الواحدة تلو الأخرى، كما حدث من قبل، فلا يكون نصيبنا منها إلا الجدل حول حصر عددها وتأريخ آثارها، فى حين تنطلق الأمم لمقاصدها قدما.