كنت قد وعدت القارئ الكريم أن أتناول الملف الزراعى على أكثر من مقال. اختتمت مقالا سابقا لى بالشروق بعنوان «رحلة المليون فدان» بتاريخ 3 أغسطس 2020 بالتزام أن أتناول شيئا من التحديات التى تواجه وزير الزراعة الجديد، الذى يأتى من خلفية محاسبية، فى وزارة تواجه الكثير من التحديات المتراكمة، وتنعقد عليها الكثير من آمال الشعب المصرى فى التنمية الشاملة.
بالأمس القريب صدر بيان غريب عن وزارة الزراعة، مفاده أن الصادرات الزراعية قد بلغت (رغم أزمة كورونا) نحو 3.6 مليون طن من بداية يناير 2020 وحتى تاريخه بنهاية شهر أغسطس المنصرم! الغريب فى البيان أن العام 2019 قد شهد بيانا مماثلا من وزارة الزراعة، يزف إلينا خبر تجاوز الصادرات الزراعية ما «وزنه» 5.3 مليون طن أغلبها أيضا من الموالح والبطاطس. الملفت أيضا فى انتقاء هذا المؤشر للتعبير عن زيادة حجم الصادرات الزراعية، أنه مؤشر متحيز بطبعه ولا يعكس قيمة حقيقية لميزان التجارة الزراعى والذى يقدّر عادة بالدولار الأمريكى (عملة التصدير الأهم والأكثر استقرارا مقارنة بالجنيه المصرى). انتقاء المؤشرات ذات الدلالة الموجهة هو خطأ شائع يقع فيه المسئول عن عمد أو غير عمد، حينما تعجزه الأرقام التى يريدها مبشّرة مزهرة على غير حقيقتها. خطأ كان سببا فى صناعة أكبر فقاعة مالية عرفها عالم المؤسسات فى حينها وهى فقاعة شركة «إنرون» التى لم تكن تزيّف البيانات فى إفصاحاتها المتكررة على شاشات البورصة، لكنها كانت تنتقى البيانات ذات الدلالة الموجهة والمعقّدة أحيانا، وتغض الطرف عن مدلولات أخطر فى بيانات محجوبة.
لا أحد يمكنه أن يعاتب وزارة الزراعة على تراجع قيمة الصادرات الزراعية فى ظل أزمة كورونا، والتى للعلم ووفقا للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء تراجعت من 4.3 مليار جم فى مارس 2020 إلى 3.3 مليار جم فى إبريل ثم إلى 2.7 مليار جم فى مايو 2020.. بالتأكيد حاولت أن أحصل على سلسلة بيانات سنوية أو نصف سنوية أو بأى دورية كانت لهذا البيان فيما قبل مايو 2019 لعقد مقارنات بشكل أفضل، لكن موقع الجهاز على الإنترنت يحتاج إلى مراجعة عاجلة وتحديث، وإتاحة الفرصة لاستخدام العملة الصعبة فى متابعة بيانات التصدير على وجه الخصوص، لأن محاولات التحويل من قبل الباحثين سوف يعترضها طبيعة ومصدر سعر الصرف المستخدم للتحويل، هل هو الصادر عن البنك المركزى للبيع أم الشراء أم متوسط مرجّح؟! هل هو سعر الصرف فى نهاية الفترة أم بدايتها أم متوسط بسيط.. تفاصيل كثيرة تجعل القياس منحازا ومختلطا على أهل البحث ناهيك عن العوام.
***
التراجع الملحوظ فى قيمة الصادرات الزراعية يواكبه تركّز غير محمود فى تركيبة تلك الصادرات، وهو ما لفت انتباهى وأزعجنى عند مطالعة رقم واحد فقط فى صدر البيان؛ فوفقا لبيان وزارة الزراعة الأحدث والمشار إليه آنفا كانت صادرات الموالح تشكّل (وزنا) نحو 47% من حجم الصادرات الزراعية خلال ثمانية أشهر كاملة من العام الميلادى الحالى! بينما شكّلت ذات الصادرات ما لا يزيد عن 14% من صادرات عام 2019 وهو تدهور ملحوظ فى أى مؤشر للتنوّع، وعلى كل حال كانت صادرات البطاطس دائما فى المركز الثانى من حيث الوزن أيضا!.
أما عن رئيس المجلس التصديرى للحاصلات الزراعية فقد أكّد فى تصريحات صحفية حديثة تراجع صادرات مصر الزراعية بقيمة 100 مليون دولار أمريكى خلال الفترة من سبتمبر 2019 إلى نهاية يونيو 2020، وبنسبة انخفاض قدّرها فى ذات التصريح بنحو 5% من الصادرات الزراعية السنوية التى تصل إلى نحو 2 مليار دولار.
معذرة للقارئ الكريم الذى يحسب أن الاقتصاد المصرى مازال يركن بشكل كبير إلى الناتج الزراعى وصادراته خاصة وأن قطاع الزراعة يعمل به ما لا يقل عن 55% من قوة العمل. فإذا كانت الصادرات الزراعية لا تدر على ميزان المدفوعات سوى 2 مليار دولار سنويا، فعليك أن تعرف لأغراض المقارنة أن الولايات المتحدة الأمريكية تصدّر سنويا (وحتى عام 2018) حاصلات زراعية قيمتها نحو 150 مليار دولار، كما تصدّر هولندا بما قيمته 94 مليار دولار، وألمانيا 86 مليار دولار، والبرازيل 79 مليار دولار، وإيطاليا وبلجيكا بنحو 44 مليار دولار..
علما بأن معظم البلاد المذكورة من الدول التى لا تعد فى الغالب مصدرا صافيا للموارد الخام، بل هى مستورد مصنّع ومصدّر للقيمة المضافة على عكس مصر.
لماذا استوقفنا هذا البيان بالذات فأفردنا له مقالنا الأسبوعى؟! هناك أكثر من سبب، أولا: لأن مقال الأسبوع الماضى كان يتناول قضية شائكة فى غاية الأهمية تسببت فى غضب رئيس الجمهورية على نحو غير مسبوق، واتصلت من أبرز جوانبها بمنظومة التعدّى على أراضى الدولة، وتجريف وتبوير الأراضى الزراعية بصفة مستمرة، الأمر الذى تراجعت معه المساحة المنزرعة بشكل ملحوظ مقارنة بالعقد الماضى فقط، على الرغم من زيادة إنتاجية الفدان من كثير من المحاصيل، نتيجة استخدام التكنولوجيا الحديثة والمخصبات على نحو أكفأ.. فليس أقل من أن تغضب وزارة الزراعة أيضا لحجم وتركيبة الصادرات الزراعية عوضا عن التبشير بتحسّنها باستخدام مؤشر مضلل!.
السبب الثانى هو أن المعالجة الصحيحة لأية أزمة يجب أن تبدأ من الاعتراف بها، والبيان الصادر عن وزارة الزراعة، المبشّر بزيادة حجم الصادرات الزراعية (وزنا لا قيمة) قد يعطى انطباعا زائفا أنه ليس فى الإمكان أفضل مما كان، وأن كله تمام.. كما قلت من قبل وأؤكد أن التراجع مفهوم ومبرر ولا حاجة لتزيينه للجماهير. بل كنت أراهن على جهد بحثى متخصص من وزارة الزراعة يتعامل مع الحاصلات وفقا للأكواد المعتمدة من منظمة الفاو، والتى تصنّف الحاصلات الزراعية بحسب تجانسها. أعوّل أيضا على جهد بحثى يعزل أثر التقلبات الموسمية، والصدمات الاستثنائية فى حصيلة الصادرات الزراعية الناتجة عن جائحة كورونا، بغرض الوقوف بشكل غير متحيز على أهم عيوب تلك الصادرات، ومخاطر تركّزها فى محصولين بشكل رئيس (أحدهما كان تأثير إصابته بالعفن البنّى فى إحدى السنوات مدمرا لسمعة الصادرات الزراعية المصرية وحصيلتها).
***
أذكر أن مشروعى للتخرّج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة عام 1999 كان تحت إشراف أستاذ استثنائى فى إلمامه وإتقانه لتطبيقات الاقتصاد القياسى والكمى وهو الدكتور طارق مرسى (حفظه الله). للأمانة كان الوقوع فى مجموعته البحثية حدثا مخيفا لأى طالب فى الكلية، فهو لا يعرف التهاون ولا المزاح فى التكليفات والانتظام فى الحضور، وكان يحب الاقتصاد الزراعى، فاخترت موضوعى ونموذجى القياسى فى هذا الفرع من الاقتصاد الذى أحبه أيضا. كانت متطلبات بناء النموذج القياسى موضوع البحث تقتضى جمع بيانات عالية التكرارية (يومية إن أمكن) لأسعار عدد من الحاصلات الزراعية. أذكر أننى أقمت أياما فى مبنى وزارة الزراعة بالدقى لجمع تلك البيانات من سجلاتها الأصلية المعبأة بخط اليد، ونقلها (كتابة) إلى دفاترى نظرا لمنع التصوير أو تعذّره من تلك السجلات الضخمة (لا أذكر)..
المهم أننى سجّلت ما يربو عن ألفى مشاهدة لكل نوع من المحاصيل الستة التى كنت أبحث عنها! فضلا عن بيانات أخرى من بنك الائتمان الزراعى الذى رتّب لى أبى رحمه الله موعدا مع رئيسه. كان مجهود جمع البيانات وحده كفيلا بالحصول على تقدير امتياز عزيز، من مشرف البحث الشهير بتقتيره فى التقديرات، بغض النظر عن نتيجة النموذج وشكل التحليل. الغريب أن أحدا فى وزارة الزراعة حينها لم يكن مهتما أبدا بتلك الكنوز المعلوماتية التى يمكن استخلاصها من بياناتهم الكثيرة، هذا النوع من البحث العلمى لا غنى عنه إن كنا نريد الوقوف بدقة على حجم وشكل الأزمات والمخاطر التى تعترض خططنا. بل يجب استخدامها أولا وقبل أى شىء كأداة مساعدة فى التخطيط وقبل الشروع فى اتخاذ مسار إصلاحى غير مدروس.