ليس لأن أيامى مهمة، أو حياتى متفردة، بل لأن أيامى وحياتى هما خلية متناهية الصغر فى ذلك الكيان الذى هو الثورة المصرية اليوم.
الأربعاء
ذهبت فى المساء إلى اعتصام مجلس الوزراء. فرقة إسكندريللا تغنى للثورة وللثوار. كده على الرصيف، لا ميكروفونات ولا سماعات، خارج أسوار مجلس الشعب، والناس تغنى معاهم، والجو جو ثورى رايق. سبحان مغير الأحوال؛ كنا نسمع إسكندريللا فى ساقية الصاوى ونحلم ــ وجاء اليوم الذى نسمعهم فى شارع الدواوين والشعب مصر على إملاء إرادته على الحكومة.
الجمعة
بعد الصلاة نمشى فى مسيرة «رد اعتبار شهداء محمد محمود»، من جامع مصطفى محمود إلى التحرير، والشارع ينثر تعاطفه علينا.
وفى المساء أجد نفسى فى اجتماع فى خيمة مع مجموعة من الثوار المعتصمين؛ الكل قلق على أحوال الميدان لكنه رافض تعليق الاعتصام، ويبحث عن آلية تمكنه من الاستمرار ــ مع تحييد الأخطار التى تتحلق حوله. والأخطار أخطار جسدية تتمثل فى وجود البلطجية والمزقوقين فى قلب الميدان والأزمات والخناقات العديدة والمتباينة التى يتسببون فيها، ووجود قوات الأمن التى تصلنا أخبار تحركاتها بين حين وآخر على حدود الميدان. الأهم هى الأخطار المعنوية: فالميدان فى الوقت الحالى، وبشكله الحالى، يفقد تعاطف الشارع، فالميدان مخترق، يمرح فيه البلطجية ومن يُشتبه فى أنهم مبعوثون من طرف التحريات العسكرية، ويباع فيه الترامادول وتقوم فيه المعارك، والخطاب الرسمى يصور كل هذا على انه من فعل الثوار الراغبين فى الفوضى وفى الخراب فى وقت اتجه فيه الشعب إلى الانتخابات، فيحاول عزله عن عموم المصريين وتوجهاتهم ومصالحهم. وما يلتصق اليوم بالميدان يلتصق بـ«الثورة» كلها.
الحل إذا فى إثبات انتماء الميدان إلى جموع المصريين والعمل على استدامة تلك العلاقات التى تتكون فيه فى أيام الحشد، والتى رأيناها على أجمل صورة فى يناير ــ فبراير. لنفتح الميدان للسيارات إذا، ولنستمر فى الاعتصام، مع إعلان واضح عن موقفنا؛ صار هذا هو الرأى السائد عند أغلبية الحضور (٢١ من ٢٣ صوتا)، واتفقوا على مكونات البيان ومضمونه وكلفونى بصياغته.
السبت
السابعة صباحًا
انتهيت من صياغة البيان فجاء فيه إعلان استمرار الاعتصام ومطالبه من نقل سلطات رئيس الجمهورية من المجلس العسكرى إلى «سلطة مدنية يرتضيها الشعب»، وتشكيل حكومة إنقاذ وطنى (حقيقية)، وإقالة النائب العام، والتعامل اللائق مع قضية الشهداء والمصابين، وتحويل المحكومين عسكريا إلى القضاء الطبيعى، وفتح شارع محمد محمود. وجاء فيه هذا الإعلان للنوايا:
«سوف نستثمر جهد وإبداع الشعب المصرى فى ثورته بأن نستمر فى الفعاليات التى ظهرت فى الميدان على النحو التالى:
(١) سنقيم خيمة للعلاج بيسمح بتقديم خدمة متميزة لشعبنا فالأطباء الثوار سيقدمون الاستشارة الطبية وما تيسر من علاج لأى مواطن يأتى إلينا فى حدود تبرعات المواطنين الشرفاء المصريين للمستشفيات الميدانية.
(٢) سنقيم خيمة لرعاية الطفل كى يجد الأطفال الفقراء والأيتام ملجأ آمنا بين خيام الثوار، وسنقيم فصول محو أمية وغيرها لهم وسنستمر فى توفير هذا الملاذ للأطفال.
(٣) سوف نقيم فعاليات أدبية، وفنية وثقافية فى الأمسيات وفى أيام الجمعة، والدعوة عامة والكل مرحب به.
هذه هى مصر الثورة، نجسدها أمام مبنى المجمع فى ميدان التحرير لتبقى فى قلوب الجميع ومخيلتهم».
وجاء فيه توضيح الموقف من الانتخابات: «لقد اختار الشعب أن يتوجه إلى صناديق الاقتراع ونحن بالرغم من عدم حماسنا لهذه الانتخابات التى تتم تحت رعاية مجلس عسكرى الذى قتل إخوتنا وأعاق ثورتنا، إلا أننا نحترم إرادة الشعب وتوجهاته، ونؤمن بأننا كلنا نتجه نحو هدف واحد وهو تحقيق الحياة الكريمة لكل مواطن فى ظل حكومة مدنية منتخبة».
وأعلن فتح الميدان:
«مراعاة منا لمصالح المواطنين الذين يسكنون أو يعملون فى ميدان التحرير والمناطق المجاورة له أو يحتاجون إلى المرور منها، سوف نعتصم فى الميدان وشارع مجلس الوزراء بما يسمح بفتح الميدان ومرور السيارات فيه بشكل طبيعى. وسوف نؤَمِّن مرور الموظفين إلى أعمالهم والمواطنين إلى مصالحهم داخل مبنى المجمع كل يوم ويكون هذا فاعلا من الساعة الخامسة بعد ظهر يوم السبت ٣ ديسمبر».
والقارئ الكريم يعلم بالطبع أن الثوار لم يتمكنوا من فتح الميدان للسيارات يوم السبت، فحين اتجهوا للحديث مع «أمن البوابات» حول قرار فتح الميدان تطور النقاش سريعا إلى مطاوى فُتحَت فى أوجههم، ثم سنج وكذلك ــ مع الوجود الدائم طبعا للشوم.
الأحد
الزيارة المعتادة لمربيتى التى تقاعدت وتعيش مع أحفادها وأرملة ابنها. هم ناس مستورون، يمتلكون بيتهم الصغير، لكن الكل يتحدث عن أنبوبة البوتاجاز التى وصلت إلى الخمسين جنيها (وسعرها الرسمى ٥ جنيهات) إن وجدت، والكل يتساءل لماذا نصَدِّر الغاز ونحن هنا فى أمَسّ الحاجة إليه، والكل يتحدث عن الابن الذى لا يجد عملا وهو خريج معهد صنايع وأخذ مؤخرا دورة فى الجرافيكس تكلفت خمسمائة جنيه؟
ثم إلى وقفة تضامنية أمام دار القضاء العالى بمناسبة طلب الاستئناف على الحكم بحبس علاء عبدالفتاح احتياطيا على ذمة التحقيق فى أحداث ماسبيرو، والمطالبة بإعادة محاكمة جميع المحبوسين بأحكام عسكرية أمام قاضيهم «الطبيعى». الوقفة قوامها حوالى ثلاثمائة شخص. المارة متعاطفون ــ فيما عدا سيدة تصيح فى هلع مطالبة بالاستقرار.
ثم إلى ميدان التحرير حيث أصل فى اللحظة التى تحاول فيها بثينة كامل ومجموعة من الشباب فتح بوابة شارع قصر العينى فتظهر الشوم والمطاوى وتنطلق شابة صارخة مُلَوِّحة فتضرب بثينة وأقف أنا على حرف الأحداث فى مشاحنات لفظية حول إغلاق الميدان وفتحه ثم أجلس على الرصيف أستمع إلى قصة شاب: «حسن»، من الجيزة، صاحب طفلتين، نزل إلى الميدان لأنه يريد لهما فرصة أفضل مما أتيح له فى الحياة، وبالذات يريد لهما التعليم. كان يستأجر قهوة يديرها ثم رفع صاحب القهوة الإيجار فاستحال عليه، فتحول للعمل باليومية، لكن اليومية المعروضة تناقصت حتى صارت خمسة عشر جنيها والبيت لا يقوم على أقل من عشرين جنيها فى اليوم. كُسِرت ساقه وهو فى الرابعة عشرة وهى إلى الآن تؤلمه أحيانا لدرجة تبكيه كالطفل. قيل له إنه بحاجة إلى أشعة مقطعية، وهى تتكلف سبعمائة وخمسين جنيها، فكيف له أن يحلم بأن يحتكم على هذا المبلغ زيادة عن ضرورات بيته؟ يرى أمله الوحيد فى نجاح الثورة وتَحَقُّق مشروعها للعدالة الاجتماعية: العمل بأجر عادل، الحق فى التعليم، الحق فى الرعاية الصحية.
ندخل معا إلى الميدان ثم إلى النقاش الدائر من جديد حول الفتح والإغلاق. يستمر النقاش لساعات، وناس تخرج منه وناس تدخل إليه. نقاش على مستوى عال من الوعى السياسى والحس البراجماتى؛ أتعلم منه الكثير. يؤخذ قرار بالضرورة الحتمية لفتح الميدان، وتوضع خطة للسيطرة على البوابات ويبدأون فى التنفيذ.
الاثنين
الثانية صباحًا
تأتينى المكالمة من حسن: «أنا قلت أفرحك: البوابات اتفتحت، وبنجيب مقشات وبننضف الميدان، العربيات تيجى بكرة تلاقيه فُلّ». عم فرج، عامل الجراج، يعبر عن مخاوفه من التيار الإسلامى فى الحكم ويعطينى درسا قصيرا عن أهمية الآثار فى بلادنا وملخصا عن كيف (كان) النظام الحاكم يسرقها.
التاسعة صباحا
فى محكمة جنوب القاهرة بالعباسية. شباب كتير فى لبس السجن الأزرق يدخلون القفص ويخرجون من القفص وأمهاتهم تجرى وراهم، تحاول إعطاءهم سندوتش، أو لفافة ورق وبعد ما يختفى ابنها تراها تدس ورقة مالية فى جيب رجل أتصور أنه المحامى. نخرج لنقف فى الشمس عند الباب الخارجى ثم يأتى علاء فى تريننج السجن الأبيض، ضاحكا مضيئا مكلبشا فى رسغ العسكرى المرتدى الصوف الأسود، نهجم عليه أنا وأمه وحماته لنُقَبِّله (منال، زوجته، لم تصل بعد من قاعة المحكمة)، يُدخلوه قاعة المداولة. تمر فترة. يخرجوه من قاعة المداولة ونتمكن جميعا ــ الأسرة والأصدقاء ــ من الالتفاف حوله هو ومنال وليلى. يجيب على أسئلتنا بأنهم يضيقون الخناق من حوله، كل ما يدخل إليه أو يخرج من عنده يُفَتَّش فانقطعت مقالاته، إذا تحدث اليوم مع سجين يجده غدا محلوق الرأس، مضروبا، يضع وجهه فى الأرض. أدخلوا إلى السجن نشرة غريبة تتهمه بالعمالة والاتهامات الخيانية المعهودة ــ ينهون الوقفة فجأة ويجرون به إلى السيارة، وحين ينطلقون نهتف له بقوة فى حوش المحكمة.
مكالمة من حسن: البوابات اتقفلت، وحدفوا العربيات بالطوب ورفعوا الشوم والأوضاع مش كويسة أبدا.
تأتينا التعليمات «روحوا بقى خدوا قرار المحكمة من نيابة أمن الدولة فى التجمع الخامس»، فنجرى إلى السيارات وحين نصل إلى التجمع الخامس يصلنا النبأ: رفضوا الاستئناف فهو مستمر فى الحبس.
أذهب إلى البيت. أحتاج إلى النوم ساعة واحدة ثم أنزل لأسأل عن الميدان.
الثامنة مساء
حاول الثوار فتح البوابات ثلاث مرات، وفى كل مرة يحدث هيجان شديد وصياح وسلاح أبيض: الميدان لن يُفتَح. يعرفون الآن الشخصيات التى تسيطر على البوابات ــ ولنقل إنهم من المواطنين الشرفاء المنتفعين.
فى الميدان شباب لا زالوا يتحدثون عن تفعيل الاعتصام بفعاليات جميلة، ومعارض صور، وشراء كاميرات لبَث إخبارى متصل، ليعرف الناس حقيقته وحقيقة الثوار. يضطر زملاؤهم فى الاعتصام فى الآخر إلى الجهر بالسؤال: هذه البوابة التى تبعد عشرين مترا عنكم، هل لأصواتكم أى قيمة فى قرار فتحها وقفلها؟ (لا). هذه المعارك والصفقات والممارسات التى تدار على بعد أمتار منكم، هل لكم أى نفوذ عليها؟ هل أنتم أصلا تدرون ماهيتها؟ (لا). لكنها تُنسَب إليكم. (نعم). فأنتم تجلسون هنا تخططون لمعارض صور، ومستشفيات، وعيش وحرية، أنتم فى الواقع المعرض، العمل الفنى لـ«الأيادى الخفية»:تقيم أنشطة مغايرة، مكروهة، قريبة منكم، وتلصقها بكم فى عيون الناس، فتشحن الناس ضدكم، وتغلق عليكم البوابات وتصور للناس أنكم أنتم الذين تغلقونها وتمنعون المرور والعجلة والخير. إلى ماذا يهدف هذا المعرض فى ظنكم؟ إلى أين يذهب هذا السيناريو؟
أخذ الأغلبية القرار: إن لم يمكن أن يكون الاعتصام بالشكل الذى يرتضيه المعتصمون فليُعَلَّق. إحساس أكيد بأن «الأيدى الخفية» تدفع بالميدان إلى فقدان المصداقية، وفقدان تعاطف الشعب، فتأتى اللحظة التى يتفق فيها الشعب على وجوب تطهير الميدان من «الثوار».
الثلاثاء
رفع الكثير من الثوار الخيام من التحرير. البعض ذهب إلى شارع مجلس الوزراء، والبعض علَّق ــ والتعليق ليس أبدا تخليا عن المطالب؛ هو فقط لإعطاء الفرصة للتوجه نحو أنواع جديدة من الفعاليات أكثر جماعية وفاعلية. الخيام الباقية تتمسك بالتفاؤل نحو إمكانية فتح الميدان والتواصل مع الناس وهم يستعملون الميدان بشكل عادى، وهذه تجدها فى الأغلب أمام المجمع.
لكن الميدان مخترق، بل يمكن القول إن «الاختراق» هو الأساس فيه اليوم، يمرح فيه البلطجية ومن يُشتبه فى أنهم مبعوثون من طرف التحريات العسكرية و«الأيدى الخفية» والمواطنين الشرفاء، ونحن لم نعد فى سنة أولى ثورة خلاص، وقد مررنا بخبرة فض اعتصام يوليو، فالثوار لن يسمحوا بتكرارها.
وما هو أكيد الآن ــ وبالرغم من تصريحات اللواء حمدى بادين، هو أن الثوار يغادرون ميدان التحرير، فيما عدا، إلى الآن، ركن برىء متفائل منه قرب المجمع. والأكيد أيضا أن الثوار قد حاولوا، العديد من المرات فى الأيام الماضية، فتح مخارج الميدان أمام حركة المرور فلم يتمكنوا، وعلى من يريد المرور أن يتفاوض (أو يصب لعناته) الآن على المواطنين الشرفاء ومن ورائهم.
كلمة أخيرة عن جهاز الأمن الرسمى فى مصر، والذى من المفترض ان شغلته أن يحمى المواطن، الذى يتصرف فى حدود القانون، فيمكنه من التظاهر والاعتصام والعمل العام، جهاز الأمن الرسمى هذا ــ رسمى ــ غائب عن الميدان. وغيابه يعبر عن علاقة غريبة: فجهاز الأمن لا زال هو عدو أساسى للثورة والثوار، بينهما تار إرهاب الجهاز للناس عبر أكثر من ثلاثين عاما، وتار هزيمة الثوار للجهاز وحرق بعض مقاره فى يناير وفبراير، ثم قتل الجهاز المبرمَج للثوار وتكسير عظامهم وفقء أعينهم منذ يناير وانتهاء بموقعة شارع محمد محمود، هذا مع امتناع المجلس العسكرى، حامى الثورة، وحكوماته المتتابعة عن إطلاق أى محاولة لإصلاح الجهاز وتغييره. فالواقع أن اعتصام نوفمبر ــ ديسمبر فى ميدان التحرير لم يكن مخططا له بل جاء كرد فعل لتعامل جهاز الأمن مع المصابين الموجودين فى الميدان صباح السبت ١٩ نوفمبر ثم كاستجابة لاعتداء الأمن على الميدان وقتل الناس وسحل أجسادهم ومعارك شارع محمد محمود. والآن الأمن ليس بريئا من الاختراقات والتجاوزات التى تحدث فى الميدان، إلا أنه أظهر خفة الدم حين قال للثوار، وبدلال محبب: «لو عاوزنى.. اطلبنى»!
وبما إن الدكتور الجنزورى مُصِرّ على تشكيل وزارة، فليعطينا عربون حسن نية بتكليف وزير داخلية يتبنى مشروع إعادة هيكلة المنظومة الأمنية الذى طرح على صفحات هذه الجريدة أكثر من مرة. فكل مواطن فى هذا البلد يعرف أن أمرها لن يبدأ فى الاستقامة إلا لو تم إصلاح الأمن ــ ولكل مصالحه وحساباته.