بعد أكثر من أربع سنوات من الهدوء فى سوريا عندما تم التوصل لاتفاقية لوقف إطلاق النار فى مارس ٢٠٢٠ برعاية تركية - روسية، والتى كانت إعلانا صريحا عن هزيمة الفصائل المسلحة وتحديد إقامتها فى بعض مناطق محافظة إدلب الحدودية، عادت أجواء الحرب إلى سوريا مجددا، بعد أن باغتت الفصائل المسلحة -بقيادة هيئة تحرير الشام- فى السابع والعشرين من نوفمبر الماضى قوات النظام السورى لتتمكن من السيطرة على حلب - ثانى أهم مدن سوريا- لأول مرة منذ أن غادرتها فى ٢٠١٦!
كانت مغادرة الفصائل المسلحة لحلب بعد حرب ناجحة شنتها قوات الأسد بالتعاون مع قوات أخرى أجنبية بقيادة إيران تحت غطاء وضربات جوية روسية. لكن لم تكتف الفصائل بحلب، لتواصل تقدمها عبر الطريق الدولى M5 الذى يربط المدن السورية الرئيسية، ومن ثم كان التحول النوعى الجديد حيث أنه وبحلول يوم الخميس الخامس من ديسمبر الجارى – وقت كتابة هذه السطور - تمكنت الفصائل المسلحة من السيطرة على مدينة حماة، وهى المدينة التى لم يسبق أبدا أن خسرها نظام الرئيس بشار الأسد حتى فى أشد لحظات معاناته طوال سنوات الحرب الأهلية، ليكون ذلك بمثابة تطور جديد قد يؤدى إلى المزيد من التدهور لقوات النظام، وربما نشهد – إن لم نكن نشهد بالفعل - تجدد الحرب الأهلية السورية التى بدأت عام ٢٠١١ وانتهت نظريا فى ٢٠٢٠ بالهدنة وبتمكن قوات الرئيس الأسد والفصائل المسلحة المتعاونة معها من السيطرة على المدن السورية الرئيسية من حلب وحتى درعا.
• • •
فى ظل هذه التطورات السريعة والمفاجئة، فهناك ثلاثة أسئلة تحتاج إلى إجابة، السؤال الأول هو لماذا تم هذا الهجوم الآن فى هذا التوقيت بالذات؟ والثانى هو لماذا انهارت قوات النظام السورى بهذه السرعة؟ بينما يكون السؤال الأخير هو عن الكيفية التى قد يسير بها مسار هذا الهجوم فى المستقبل القريب ومدى تأثير ذلك على شرعية نظام بشار الأسد وكذلك على علاقات النظام الخارجية؟
فى الإجابة على السؤال الأول، يكمن السر فى التحولات الكبيرة التى حدثت للحليفين الكبيرين لنظام الأسد، وأعنى هنا روسيا وحزب الله. أما عن روسيا، ورغم التزامها بدعم نظام الأسد طيلة السنوات التسع الماضية، فإن قوات الرئيس بوتين قد تحول تركيزها نحو الجبهة الأوكرانية بعد أن قامت بغزو الأخيرة فى فبراير ٢٠٢٢، فلم تعد سوريا هى الأولوية الاستراتيجية لفلاديمير بوتين منذ ذلك الحين. لكن الأهم هنا هو التحولات الدرامية التى شهدها حزب الله منذ هجمات السابع من أكتوبر العام الماضى، فالحزب الذى أعلن فورا انضمامه إلى جبهة حركة حماس ضد جيش الاحتلال الإسرائيلى، دخل فى معركة ضارية ضد الأخير منذ الصيف الماضى، وهى المعركة التى تسببت فى توجيه ضربات موجعة للحزب سواء على المستوى السياسى المتمثل فى اغتيال معظم قادتها السياسيين والعسكريين وفى مقدمتهم الأمين العام الكاريزمى وأيقونة الحزب وزعيمه حسن نصر الله، أو على المستوى العسكرى والمتمثل فى خسارة الحزب للكثير من مقدراته العسكرية، أو حتى المستوى الجيو-استراتيجى والمتمثل فى اضطرار الحزب إلى الموافقة على توقيع الحكومة اللبنانية على اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل والمكون من ١٣ نقطة كانت أهمها النص على انسحاب الحزب إلى ما وراء نهر الليطانى! صحيح أن الحزب لم ينهزم تماما، وصحيح أنه تمكن بالفعل من توجيه ضربات مؤثرة فى عمق تل أبيب، وصحيح أنه قادر بحسب الكثير من التقديرات العسكرية والسياسية على استعادة عافيته التنظيمية والعسكرية سريعا، إلا أن انشغال الحزب بالجبهة الفلسطينية على مدار العام الماضى قللت بكل تأكيد من تواجده فى سوريا ودفعته إلى إعطاء الأولوية للجبهة الجنوبية!
• • •
لكن لماذا انهارت قوات الأسد بهذه السرعة، للدرجة التى جعلت الفصائل السورية المسلحة تسيطر على حلب فى بضع ساعات وهى التى لم تتمكن من السيطرة على نفس المدينة من قبل سوى بعد معارك ضارية أخذت شهورا؟! ثم كيف تمكنت بهذه السرعة وللمرة الأولى منذ ٢٠١١ السيطرة على محافظة حماة فى خلال خمسة أيام فقط من سقوط حلب؟
تشير التقديرات المبدئية إلى ثلاثة عوامل تساعدنا فى فهم الإجابة على هذا السؤال. يتمثل العامل الأول فى غياب الدعم الروسى وكذلك دعم حزب الله على الأرض بسبب انشغالهما فى جبهات قتال أخرى على النحو الذى أوضحته فى الإجابة على السؤال الأول، بينما يتمثل العامل الثانى فى عدم الاستعداد الواضح للقوات السورية، فطريقة تطور القتال والهزيمة السريعة لهذه القوات وفرارها بالشكل العشوائى على النحو الذى حدث فى حلب وتكرر فى حماة يشير إلى عدم استعداد القوات للقتال أو الدفاع، كذلك يشير إلى قلة أو حتى الغياب التام للعنصر الاستخباراتى، كذلك فهو يشير إلى الغياب الواضح فى التنسيق بين قوات النظام والميليشيات المتحالفة معها على الأرض، وكلها عوامل فشل عسكرية وسياسية يتحملها نظام الأسد وآلته العسكرية، ثم يأتى العامل الثالث والأخير متمثلا فى التطور النوعى فى الأسلحة التى استخدمتها الفصائل المسلحة وخاصة تطويرها لاستخدام الدرون والذى حقق لها تفوقا واضحا على الأرض!
• • •
هنا نأتى للسؤال الثالث والأخير، ماذا بعد؟ هل تواصل القوات المسلحة المعارضة بعد سيطرتها على حماة تقدمها نحو حمص ومن يدرى فلربما وصلت لدمشق؟ أم تتمكن القوات السورية النظامية من لملمة أوراقها والاستفاقة من هذه الضربة الموجعة لتعود للسيطرة على حلب وإدلب وحماة، أو على الأقل لإيقاف زحف الفصائل المعارضة وإبقائها عند حدود حماة؟
تتوقف الإجابة على هذه الأسئلة على ثلاثة عوامل؛ العامل الأول يتمثل فى مدى سيطرة نظام الأسد على ولاء قيادات الجيش السورى والتمكن من تجنب سيناريو مشابه لذلك الذى وقع فى ٢٠١١-٢٠١٢ عندما أعلنت عدة قيادات ورتب فى الجيش السورى التمرد والانضمام للفصائل المسلحة، ومن ناحية أخرى على قدرة القيادات العسكرية السورية الانتشار على الأرض ومواجهة التطور فى أسلحة الفصائل وهو الأمر الذى يبدو غير مرجح حتى الآن!
بينما يتمثل العامل الثانى فى الكيفية التى ستتحرك بها روسيا وتركيا وإيران وإسرائيل أمام هذا المشهد! فتركيا تبدو محايدة حتى اللحظة وإن كان هذا الحياد من غير المتوقع أن يستمر لفترة طويلة، فالأغلب أن تركيا فى مرحلة تقييم للوضع ولتطوراته لتحديد الكيفية التى ستتحرك بها خاصة بعد التهدئة التى شهدتها علاقات تركيا بالنظام السورى مؤخرا! مازال موقف تركيا الرسمى أنها تسعى للحفاظ على وحدة الأراضى السورية، لكن هذا الموقف قد يتغير إذا ما شهد نظام الأسد وشرعيته السياسية المزيد من التدهور!
أما روسيا، فرغم تعهدها بمساعدة الأسد، إلا أن المراقبين عبروا عن اندهاشهم من تباطؤ رد الفعل الروسى وما إذا كان هذا التباطؤ هو بسبب تقييم الموقف سياسيا واستراتيجيا قبل التدخل، أم هو تحول فى موقف فلاديمير بوتين وتعبير عن عدم رغبته فى أن يتشتت انتباه قواته خاصة فى ظل تعقد الحرب على الجبهة الأوكرانية؟
أما عن موقف إيران فهو أيضا أحد العوامل التى ستحدد تطور الصراع فى الأيام القليلة القادمة، صحيح أن إيران سريعا أعلنت الوقوف بجانب سوريا، ولكن هل يترجم هذا الوضع على الأرض؟ هل تتحرك قوات حزب الله مجددا من لبنان ناحية سوريا بأوامر من إيران؟ هل حزب الله من حيث المبدأ فى وضع عسكرى يسمح له بالقتال إلى جانب قوات النظام السورى أم أن ذلك قد يؤدى إلى استنزاف جديد لقوات حزب الله وهو الأمر الذى لن يطيق الحزب دفع ثمنه لا سياسيا ولا عسكريا؟
أما عن إسرائيل والتى نقلت مصادر صحفية عبرية أخبارا عن دهشة رئيس وزرائها ليس فقط من الهزيمة السريعة لقوات الأسد، ولكن أيضا للطريقة التى يتصرف بها بوتين أمام ما يحدث، فإنها غالبا ستنتظر لترى كيف ستسير الأمور، وخصوصا أن كلا الاحتمالين مُرّ بالنسبة لتل أبيب، فدعم إيران العسكرى للأسد سيعيد المخاوف الإسرائيلية مجددا من تواجد إيران عسكريا على حدودها سواء بشكل مباشر أو عبر حزب الله، وكذلك فإن تقدم فصائل المعارضة وتعرض نظام الأسد لأى انهيار محتمل سيكون بمثابة مصدر تهديد أكبر لإسرائيل، لأن وقتها سيكون عليها التعامل مع قوة إقليمية غير نظامية جديدة تضاف إلى القوات غير النظامية التى كبدت الدولة العبرية بالفعل الكثير من الخسائر، وأعنى هنا حماس والجهاد وحزب الله!
ثم يأتى العامل الثالث والأخير متعلقا بموقف القوى الإقليمية العربية ولا سيما الإمارات والمملكة العربية السعودية ومصر فضلا عن جامعة الدول العربية من نظام الرئيس بشار الأسد! صحيح أن هذه القوى ليس لها تدخلات عسكرية مباشرة فى هذا الصراع، لكن توفيرها للدعم السياسى للنظام السورى أو منع حجب هذا الدعم قد يشكل مسار الصراع مستقبلا، وكذلك قد يحدد موقف القوى الدولية منه ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية التى تستعد بعد أسابيع قليلة لتنصيب ترامب وهو المعروف بعلاقاته السياسية والشخصية القوية بقادة هذه النظم!
• • •
الحقيقة أن بشار الأسد سيكون فى مأزق حقيقى لو استمر تدهور وضع قواته على الأرض، فمن ناحية يحتاج الأسد للدعم الإيرانى العسكرى سواء بشكل مباشر أو عن طريق حزب الله، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الدعم - إن حدث - فقد يكلفه الدعم السعودى والإماراتى، فأيهما سيختار؟!
بغض النظر عن خيارات الأسد العسكرية والسياسية، فالمؤكد أنه سيدافع باستماتة للحفاظ على نظامه لأن سقوط الأخير سيكون له عواقب وخيمة على الأسد وأسرته وحلفائه فى الداخل من قبله، لكن يظل تعلم الدرس التاريخى غائبا عن معظم النظم العربية، يقول هذا الدرس ببساطة أنه ما لم يتمتع الحاكم بشرعية وقبول ورضا حقيقى من جانب شعبه، فإن الانفجارات قد تتأجل لكنها حتما ستقع يوما ما!