عن عالم ترامب وعوالم أخرى - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الخميس 9 يناير 2025 12:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن عالم ترامب وعوالم أخرى

نشر فى : الأربعاء 8 يناير 2025 - 8:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 8 يناير 2025 - 8:50 م

يبدأ كل عام بأكبر حشد للاقتصاديين على مستوى العالم، بمؤتمر ائتلاف جمعيات العلوم الاجتماعية الذى تنتظم فى إطاره 66 جمعية من الجمعيات المتخصصة، وتنظم أعماله الجمعية الاقتصادية الأمريكية. وعُقد مؤتمر هذا العام فى مدينة سان فرانسيسكو التى طالما تغنى فنانون بجمال طبيعتها وبهاء مبانيها، بما يجعلك تتعجب مما آل إليه حالها اليوم، بما تراه فى المناطق المحيطة بفنادق المؤتمر من شيوع لمظاهر الفقر المدقع، وانتشار متعاطى المخدرات فرادى وجماعات، والمتشردين فى الطرقات.

 

 

وقد شهدت هذه المدينة الشديدة الثراء متكاثرة الفقراء، تطورات عنيفة فى أوضاعها الاقتصادية بدأت قبل الجائحة، واستفحلت بعدها، جعلتها طاردة للمشروعات التى هربت منها بالآلاف، تاركة المبانى الشاهقة والمحال الفخمة المظهر خاوية على عروشها المتقادمة. فى مقال لسوبيك شاكرابارتى، المحرر فى صحيفة «التايمز» الهندية، بعنوان «وداعًا إلدورادو: الخوف والفقر فى سان فرانسيسكو»، بدأه كاتبه باقتباس من منصة «إكس» نشر فى عام 2023، وكتبه إيلون ماسك الملياردير الأمريكى الأشهر ودينامو الحملة الدعائية للرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب، ونصه: «متاجر كثيرة غلَّقت أبوابها.. تشعر وكأن المكان حلت به كارثة.. يمكنك تصوير فيلم (الموتى السائرون فى وسط المدينة) من دون أى تعديل للمخرج». واليوم بعد سنتين من النشر، لا يبدو أن الأوضاع تغيرت إلا سوءًا.
كعادتى، حاولت تجاذب أطراف الحديث مع سائقى سيارات الأجرة، وخدمة «الأوبر» بأسئلة عامة عن أوضاع المدينة التى كانت الزيارة الأخيرة لى فيها قبل جائحة «كورونا» فى 2020، فجاءت كلماتهم متحسرة على زمن مزدهر ولى، وأمل فى استعادته تبدد، وتطلعهم إلى ترك المدينة عالية التكلفة إلى سواها؛ إذ يصنف فيها من يحصل على أقل من 105 آلاف دولار سنويًا من منخفضى الدخل.
ذكر لى السائق الأول الذى تخطى الستين بسنوات، أنه أمضى من عمره أكثر من منتصفه فى هذه المدينة، وقد ضاق به الحال فيها، وليس له سبيل لترك المدينة، فلم يدخر ما يكفيه للرحيل. وقال الشاب ذو الأصول اللاتينية، قائد سيارة «الأوبر»، إنه قرر الهجرة إلى الفلبين؛ حيث وُفق فى الحصول على عمل فى أحد القطاعات العالية النمو. وأشار مسنٌّ من مصر يقود سيارة كهربائية إلى أن سان فرانسيسكو لم تعد صالحة له ولأسرته؛ بعد أن قضى فيها 14 عامًا قادمًا من تكساس؛ حيث أتم دراسته، وها هو إلى تكساس سيعود قبل منتصف العام، بعد أن خفضت ضرائبها جاذبة شركات فى مجال عمله التقنى. وبين العبارات تأتى إشارات من المتحدثين إلى مظاهر فوضى المتسكعين والهائمين على وجوههم، بأجساد أقرب إلى جثث متحركة، أنهكها الإدمان والاستلقاء على الأرصفة، بجوار مبانٍ تسلحت مداخلها ونوافذها القريبة بأستار حديدية لردع الطامعين فيها.
وتعانى نسبة لا تقل عن 10 فى المائة من السكان رسميًا من الفقر، وتزيد نسب الفقراء بين الأكبر سناً والسود والأفارقة الأمريكيين، والنساء من هذه الشرائح. ولأسباب تنوعت بين: زيادة تكلفة المعيشة، وغياب نظم الضمان الاجتماعى، وتباين جودة التعليم، والتفاوت فى توزيع الدخول، وزيادة البطالة، وانخفاض الأجور، ساءت أوضاع سكان سان فرانسيسكو. وفى ظل غياب السياسات المتكاملة لدفع الكفاءة والإنتاجية وفرص الترقى والمهارات لعموم الناس، وزيادة القدرة على تمتين المجتمع والاقتصاد المحلى من الصدمات، تتهاوى الفرص فى التعامل مع الصدمات والمربكات.
وقد كان لسان فرانسيسكو نصيب وافر من هذه المربكات وتراكماتها؛ يرجعها البعض لانفجار فقاعة التكنولوجيا فى بداية القرن، المشهورة بمصطلح «دوت كوم»، ثم الأزمة المالية العالمية فى 2008، ثم الجائحة وتوابعها التى اجتثت ثروات ومدخرات، وقوضت فرص الصمود لمن بلا ثروة أو ادخار، وبلا سبل للضمان الاجتماعى.
وقد أحسن كاتب مقال «التايمز» الهندية، بأن رد على اقتباسه من إيلون ماسك، عما أصفه بمظاهر التدهور الراهن، باقتباس من الرئيس الأمريكى الأسبق جون كينيدى، عن جذور هذا التدهور بمقولته الشهيرة: «إذا لم يستطع المجتمع الحر مساعدة الكثرة من الفقراء، فإنه لن يستطيع حماية القلة من الأثرياء».
وعودة إلى مؤتمر الاقتصاديين الذى ضمته فنادق عدة فى سان فرانسيسكو؛ فرغم تنوع المواضيع التى تناولتها الأوراق العلمية وجلساته، فإن ما هيمن على مواضيعه يكاد ينحصر فى أمرين: الأول توجهات الاقتصاد الأمريكى مع الولاية الثانية لترامب التى ستبدأ فى العشرين من الشهر الحالى، والموضوع الثانى هو الذكاء الاصطناعى وآثاره الاقتصادية؛ خصوصًا فيما يتعلق بالتنافسية ورفع إنتاجية عوامل الإنتاج، وتداعياته الاجتماعية من خلال تأثيره على سوق العمل والأجور وتوزيع الدخل.
عندما تصاب الاقتصادات بتراجع فى مؤشراتها الحيوية لتراجع تنافسيتها، يلجأ المسئولون عنها ذوو التوجهات الشعبوية إلى استهداف أحد أمرين أو كليهما: التجارة والعمالة المهاجرة. فهم لا يستطيعون استهداف تراجعهم فى التنافسية بإجراءات سريعة يتجاوب معها أنصارهم. فما أسهل فرض الإجراءات الحمائية بزيادة الرسوم والتعريفة الجمركية، وما أيسر تقييد حركة العمالة الوافدة بقوانين وقرارات، وإخلاء البلاد من مهاجرين غير نظاميين أو ناقصى وثائق وأوراق. ولكن استعادة الريادة فى التنافسية لدفع الاستثمار والنمو تستلزم زمنًا طويلاً وجهدًا مضنيًا للارتقاء بنوعية التعليم والمهارات والبحث والتطوير، وزيادة جودة البنية الأساسية التكنولوجية. وفى مقال قادم سأناقش الإجراءات الاقتصادية المزمعة فى عالم ترامب، وآثارها على العوالم الأخرى؛ ليس فقط تلك العوالم الخارجة عن حدود الولايات الأمريكية؛ بل تلك العوالم القابعة داخلها، كسان فرانسيسكو وأخواتها.

 


نقلا عن «الشرق الأوسط»

التعليقات