طرح الرئيس فى خطابه فى إفطار العائلة المصرية الدعوة لحوار سياسى مفتوح لكل التيارات، وهى دعوة لاقت ترحيبا من معظم الأحزاب السياسية بما فى ذلك تلك التى كانت تصنف خارج دائرة «الموالاة»، والتى كان من أبرز فقرات ذلك الإفطار الجاذبة للانتباه وجود عدد من ممثليها ومصافحة الرئيس لثلاثة منهم. ومع ذلك فقد تباينت ردود الفعل على هذه الدعوة. من هم خارج «الموالاة» تحمسوا لها وإن وضعوا شروطا تضمن من وجهة نظرهم مصداقية هذا الحوار، إلا أن المحسوبين على «الموالاة» سارعوا بطرح هذه الدعوة فى سياقها، فهى مجرد واحدة فقط من اقتراحات عديدة طرحها الرئيس عددها ثلاثة عشر، والدعوة للحوار هى الثامنة من بينها، كما وضعوا للحوار إطارا محددا وهو مناقشة مشروعات الدولة المصرية وإنجازاتها، وتداول الرأى بالنسبة لأيها تكون له الأولوية، ووسع كاتب آخر ينتمى إلى نفس الفريق من إطار الحوار فهو لا يجب أن يقتصر على البعد السياسى، وإنما يجب أن يشمل قضايا مثل الثقافة المصرية وتحديات الانتماء فى ظل العولمة، وطلب آخرون أن يكون مجلس الشيوخ هو المسئول عن إدارة هذا الحوار باعتبار أن تعميق الديمقراطية هو أحد الاختصاصات التى أولاها الدستور لهذا المجلس.
والواقع أن الخلاف حول دعوة الرئيس مع ترحيب الكثيرين بها هو أمر متوقع على ضوء أن إشارة الرئيس لهذا الحوار كانت إشارة مقتضبة تفتح الباب أمام تساؤلات أساسية عديدة، ولا يملك أحد فى اعتقاد كاتب هذه السطور أن يجيب على هذه التساؤلات إلا الرئيس نفسه، ولذلك سوف تستمر هذه التساؤلات حتى انعقاد هذا الحوار بل وحتى فى أثنائه لأنها تتعلق بأمور جوهرية تمس مصداقية الحوار وجدواه، وخصوصا أن طلب الحوار من جانب الرئيس هو أمر غير مسبوق منذ يونيو ٢٠١٤، ولذلك لا يلتمس المهتمون بهذا الحوار أى ممارسات سابقة تساعدهم على الإجابة على هذه التساؤلات.
ويطرح هذا المقال تصورا لما ينبغى أن يكون عليه الحوار السياسى فى كتابات العلوم السياسية، وينطلق منها لطرح تساؤلات واقتراح إجابات للتصدى لما يعتبره تحديات وجودية فى تنظيم مثل هذا الحوار. ويعتبر الكاتب أن مثل هذه الدعوة تستحق التأييد لأن الحوار غائب منذ سنوات عن الحياة السياسية المصرية بل وحتى داخل المؤسسات الأكاديمية التى أصبح إجراء أى مناقشة علنية فيها لأمور عامة تتعلق بتخصصاتها أمرا يقتضى الحصول على موافقة جهات قد لا يتسع صدرها كثيرا لأى حوار.
الحوار فى إطار العلوم السياسية
يعلق بعض فلاسفة السياسة أهمية كبرى على الحوار ليس باعتباره وسيلة الوصول إلى الحقيقة كما يرى أفلاطون مثلا، ولكن باعتباره الأساس الرئيسى لقيام نظام سياسى حديث على الشرعية بدلا عن القهر أو اتباع التقاليد. بل ويرى أحدهم فى مثل هذا التواصل داخل مؤسسات المجتمع المدنى وفى المجال العام المخرج من أزمة الديمقراطية الليبرالية التى تستبعد غالبية المواطنين عمليا من عملية صنع القرار وتضعها فى يد جماعات منظمة من أصحاب المصالح. ولكن مثل هذا الحوار أو التواصل حتى يكون مجديا لابد له من توافر عدد من الشروط الأساسية، حددها الفيلسوف الألمانى يورجن هابرماس وهى:
أولا: المساواة المطلقة بين المشتركين فى الحوار، فلا يملك أى منهم امتيازات خاصة فى مواجهة الآخرين.
ثانيا: أن يدخل الجميع الحوار بروح منفتحة، فلا يدعى أى منهم احتكار الحقيقة، كما يكونون مستعدين للتخلى عن وجهات نظرهم إذا ثبت من خلال الحوار أن حجج الآخرين أكثر صحة.
ثالثا: أن تكون الحجج الراجحة فى الحوار هى الحجج الأقدر على الإقناع بسبب إمكانية أن تكون الأقدر على تحقيق المصلحة العامة.
رابعا: ألا ينفرد أى طرف بتحديد من يشارك فى الحوار، وبفرض جدول أعماله، فالحوار يجب أن يكون مفتوحا لكل الأطراف، كما أن كل القضايا العامة هى مقبولة للمناقشة.
فإلى أى حد تنطبق هذه القواعد على الحوار السياسى المزمع فى مصر؟
لا أستبق الإجابة على هذا السؤال، وإنما أترك للقراء أولا وعلى تطورات الأحداث بعد ذلك أن توفر الدليل على أى إجابة له. ولكن سأتناول فى حدود ما يسمح به هذا المقال ثلاث قضايا تمثل بالفعل تحديات وجودية له، وأتمنى أن يجرى النقاش حولها قبل بدئه.
الهدف من الحوار
من الطبيعى أن يختلف المعلقون فى الصحف وفى بيانات الأحزاب حول نطاق القضايا التى يشملها الحوار، لأن الرئيس وهو يدعو له لم يحدد له هدفا بعينه، واكتفى بالقول أنه حوار يليق بما يسميه الجمهورية الثانية، ونظرا لأن هذه الجمهورية الثانية لم تقم بعد، كما لا يتواتر حديث عن دستور جديد أو حتى تعديلات دستورية لكى يستقيم الحديث عن جمهورية ثانية، فإن هذا التوصيف من جانب الرئيس لا يكفى لمعرفة الهدف من الحوار. طبعا الظرف الحالى وما تواجهه مصر من أخطار على الصعيد الاقتصادى، وعلى الصعيد الإقليمى من العجرفة الإسرائيلية فى مواجهة الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين والذين لا تكترث بأى حقوق مشروعة لهم ينتهكها جيشها على صعيد شبه يومى، بل وعلى صعيد أمن مصر المائى الذى تضرب به الحكومة الإثيوبية عرض الحائط بقربها من إنجاز الملء الثالث لسد النهضة، هذا الظرف يستدعى بالفعل حوارا حول هذه التهديدات، والرئيس وصف الحوار الذى يدعو له بأنه حوار سياسى، ونظرا لأن الرئيس ذكر أن الإصلاح السياسى لم يكن غائبا عن ذهنه، وإن كان البعض قد تصور أنه مؤجل، فربما يكون قصر الهدف من هذا الحوار حول تحقيق الإصلاح السياسى فى مصر هو الأقرب لما يقصده الرئيس، ويبقى التساؤل حول ما هى حدود الإصلاح الذى يمكن أن يخرج به هذا الحوار.
أطراف الحوار
وإذا قبلنا هذا الهدف للحوار يبقى أن نعرف ما هى الأطراف المدعوة له. تحدث الرئيس عن دعوة كل التيارات السياسية، ونظرا لأن بعض ممثلى التيارات التى كانت تلقى الهجوم من جانب كتاب الصحف ومقدمى برامج التلفزيون كانوا موجودين فى إفطار العائلة، فلاشك أن القوى السياسية المدنية وتحديدا أحزاب وشخصيات الحركة المدنية الديمقراطية هم أطراف أساسية فى هذا الحوار، وإذا كان البعض يحتج بأن هذه القوى ليس لها وجود فعال بين المواطنين، فالرد على ذلك أن الرئيس نفسه يعطى أهمية لهذه القوى، ومن ناحية أخرى لا يملك أى من الأحزاب القائمة أن يدعى أن له مثل هذا الوجود بين المواطنين، أيا كان حجم تمثيله فى مجلسى البرلمان. وبما أن غالبية الأحزاب الممثلة فيهما تؤيد الرئيس على طول الخط، ولم يعرف عنها دعوتها لأى إصلاح سياسى، فمن المنطقى أن تتوجه الدعوة لمن يختلفون حول طبيعة الإصلاح المنشود ومدى نطاقه. فالحوار لا يجرى بين أطراف متفقة فيما بينها، وإنما يجرى مع من يحمل وجهة نظر مغايرة.
طبعا هناك قوى مازالت فاعلة على أرض الواقع، وهى التى يصفها الرئيس بأهل الشر، ولكن على ضوء الخصومة الشديدة والمتبادلة بين هذه القوى، وتحديدا الإخوان المسلمين ومن يرفع راية الإسلام السياسى، فليس من المتوقع دعوتهم لمثل هذا الحوار، وهو ما أوضحه الرئيس كذلك.
وإذا كنا نعرف وجهة نظر الأحزاب التى تصف نفسها بأنها أحزاب مدنية والتى تضمها الحركة المدنية الديمقراطية فيما يتعلق بالإصلاح السياسى، فنحن لا نعرف رؤية أحزاب «الموالاة»، بل ولا نعرف كيف ستواجه مطالب الإصلاح السياسى، فموقفها منه تابع لموقف الرئيس، وقد رأينا على ذلك مثلا عند مناقشة قانون الجمعيات. وقف كل أعضاء هذه الأحزاب بإجلال عندما أقر المجلس صيغته المقيدة فى القانون ٧٠ لسنة ٢٠١٧، ثم عادوا وأيدوا الصيغة الأقل تقييدا فى القانون ١٤٩ لسنة ٢٠١٩، والسبب فى تحولهم من النقيض إلى النقيض هو تغير موقف الحكومة.
هذا تحد وجودى لهذا الحوار. لابد من وجود صانع القرار السياسى طرفا فى هذا الحوار، وصانع القرار ليس هو الحكومة التى يتفاخر رئيسها وأعضاؤها بأنهم تكنوقراط، خبراء فنيون لا علاقة لهم بالسياسة. صانع القرار الحقيقى هو مؤسسة الرئاسة. طبعا الرئيس صرح بأنه سيحضر بعض الاجتماعات، ولكن نربأ بمكانة الرئاسة فى تقاليدنا المصرية أن تقبل مناقشة الند للند فى هذا الحوار، والأفضل أن يكون هناك تمثيل لمؤسسة الرئاسة إلى جانب مجلسى البرلمان والحكومة كفريق واحد، ولكنه فريق يملك أن يقارع الحجة بالحجة، وأن يسلم بداية بضرورة الإصلاح السياسى وألا يشكل عقبة أمام تحقيقه.
قضايا الحوار
من المتصور أن تكون هناك لجنة تحضيرية يشارك فيها ممثلون لكافة التيارات السياسية المدعوة لهذا الحوار تحدد جدول أعماله. ونظرا لأن التحديات التى تواجه الوطن لا تحتمل حوارا يمتد لأكثر من أسابيع، لذلك فربما تقتضى الحكمة أن يركز الحوار على القضايا ذات الأولوية والتى يحتاج صانع القرار أن يسمع فيها وجهات نظر مستقلة لا تخرج عادة من الأجهزة المسئولة عن أمن الوطن. وربما يمكن تصنيف القضايا الواجبة بالاهتمام إلى قضايا الأجل القصير وقضايا الأجل الطويل. فمن قضايا الأجل القصير الإصلاح السياسى، ومواجهة التحديات الهيكلية للاقتصاد المصرى التى تجعله ضحية للأزمات فى الاقتصاد العالمى، وأخيرا النهج الأمثل فى التعامل مع تهديدات الأمن القومى المصرى من جانب أطراف إقليمية فى مقدمتها إسرائيل وإثيوبيا، والحفاظ على علاقات متوازنة مع كافة الدول العربية.
قضية التعديلات الدستورية ربما تكون قضية الأجل المتوسط، وقضية المشروعات القومية التى جرى الإنفاق عليها تؤجل إلى دورات تالية للحوار تتولاه فيما بعد المؤسسات الدستورية والأحزاب السياسية والنقابات ومراكز الأبحاث المتخصصة، ولكن تسبقها فى الأهمية قضية صنع القرار فى المجالين الاقتصادى والعمرانى، ويمكن أن يتولاها تفصيلا مؤتمر اقتصادى ترددت الدعوة له. مناقشة الشأن الاقتصادى يجب أن تشمل وسائل وقاية المواطنين من الآثار السلبية لأزمة الاقتصاد المصرى على مستوى معيشتهم.
لو خرجنا من هذا الحوار بإطلاق سراح جميع المسجونين السياسيين ورفع القيود على حريات التعبير والتنظيم، وفتحنا الباب أمام تغيير قوانين الانتخابات، لكان ذلك إنجازا عظيما يحسب للداعين له ولجميع المشاركين فيه.