حتى منتصف القرن التاسع عشر، كان رجال الأعمال المقيمون فى مصر يجتمعون بغير انتظام فى أماكن عامة بمدينتى الإسكندرية والقاهرة لبيع وشراء الأسهم، والسندات، وعقود القطن، وأراضى البناء... وفى عام 1861 تألفت مجموعة من الوسطاء (السماسرة) وأنشأوا معا أول بورصة للقطن والحبوب فى مدينة الإسكندرية، وكانوا يعملون فى مقر بشارع يسمى «البورصة القديمة»، وكانت تلك البورصة واحدة من أقدم بورصات العقود السلعية فى العالم، حتى إن بورصة نيويورك لم تنشأ إلا فى عام 1870، وبورصة ليفربول أنشئت فى عام 1873، وبورصة نيوأورلينز أنشئت فى عام 1880.
فى تلك الحقبة وما تلاها شاعت المضاربات فى تعاملات المستثمرين فى الأوراق المالية، وتعرض الكثيرون لخسائر فادحة، كانت سببا فى تشويه سمعة البورصات كافة، وجعلها صنوا لصالات القمار! وارتبط ذلك التصور بالتجار وأصحاب الأراضى المصريين الذين يتعاملون فى عقود محصول القطن الآجلة، وكانت تعاملاتهم سببا فى تقلبات أسعار القطن بوتيرة غير معتادة، حتى أن اللورد «كرومر» المعتمد البريطانى فى مصر قد ذكر فى تقريره السنوى المرفوع إلى وزير الخارجية البريطانى عن الحالة الاقتصادية والسياسية لمصر لسنة 1904 الذى يرفع لوزير الخارجية البريطانى ما مفاده: «أنصح المزارعين المصريين والتجار أن يمتنعوا عن المضاربة بأسعار القطن، وأن يبيعوا المحاصيل كلما كانت أسعارها مناسبة دون انتظار إلى ارتفاع الأسعار بصورة كبيرة كما يفعل أكثرهم».
وفى عام 1883 أسست شركة البورصة السلطانية (أو شركة البورصة الخديوية) برأسمال قدره 60 ألف جنيه. وقد تم بناء مقصورتين للتداول، وانتشرت الترجمة الفرنسية لمقصورة التداول أو الحلقة بلفظ «كوربيه» (Corbeille) تلك التى مازالت شائعة حتى يومنا هذا. كانت إحدى المقصورتين مخصصة للبضائع والأخرى للأوراق المالية. وكانت تحرر معظم العقود باللغة الإيطالية. ومن ناحية أخرى كانت توجد عمليات عقود حاضرة (سوق فورية) على القطن المصرى وذلك منذ عام 1821، وعرفت تلك البورصة ببورصة «ميناء البصل» التى ظلت مستقلة حتى عام 1931. وفى عام 1882 وضع أسس التجار شركة خاصة باسم «شركة القطن بالإسكندرية» والتى أصبحت بعد ذلك «جمعية الإسكندرية للقطن» ثم عرفت لاحقا «بالجمعية الإسكندرية العامة للغلة» وكانت تلك الجمعية مسئولة عن تنظيم العقود الحاضرة الصادرة على محصول القطن وبذرة القطن والحبوب فى الأسواق الحاضرة والآجلة.
• • •
كانت الحالة الاقتصادية فى مصر حتى عام 1884 غير متزنة، حيث كانت البلاد مقيدة بالديون الخارجية، ووصفت تلك الفترة «بالكفاح ضد الإفلاس». وفى عام 1885 تم البدء فى الإصلاح النقدى بصدور قانون نص على أن وحدة النقد تقدر بالذهب. وكان يستخدم فى التقدير الجنيه الإنجليزى الذهب، والذى كانت قيمته فى عهد «محمد على» باشا مقدرة بمبلغ 79.5 قرش. وتدفقت على مصر رءوس الأموال الأجنبية على إثر ذلك الإصلاح النقدى. خلال عهد الخديوى «عباس حلمى الثانى» وتحديدا فى عام 1899 انتقلت «الجمعية الإسكندرية العامة للغلة» إلى مبنى جديد بميدان «محمد على». ومن هذا التاريخ أصبحت بورصة الإسكندرية أحد معالم المدينة، فظهرت على بطاقات البريد وفى الكتب والدليل الإرشادى للإسكندرية.
أما بورصة القاهرة فلم تر النور إلا فى عام 1903 عندما اجتمعت لجنة من السماسرة برئاسة السيد «موريس قطاوى» (أحد مؤسسى البنك الأهلى) وتم إنشاء بورصة القاهرة بدعم من البنك بالمقر القديم للبنك العثمانى بشارع المغربى (جروبى ــ فرع عدلى حاليا) وذلك بصفة مؤقتة، على أن تأخذ البورصة الشكل القانونى لشركة ذات مسئولية محدودة. كانت هناك محاولة سابقة لتأسيس بورصة لتداول الأوراق المالية فى القاهرة عام 1890 حيث اتخذت من خلف حديقة «الأزبكية» مقرا لها، لكن سرعان ما تم تصفية ذلك الكيان نظرا لعدم انتظام عمليات التداول به.
كان تأسيس بورصة القاهرة عام 1903 بمثابة آذان لانطلاقة اقتصادية فى البلاد. وقد تزامن تأسيسها مع استقرار على الصعيد السياسى نتج عن توقيع اتفاق للمهادنة بين فرنسا وإنجلترا عام 1904، وكان لكل ذلك أثره فى أن يعم الرخاء ربوع البلاد، فكثرت الأموال، مما كان له أثر تضخمى على أسعار القطن والأوراق المالية خلال الفترة من 1902 إلى 1906 وشهدت تلك الفترة مضاربات عنيفة فى أسعار الأراضى وأسهم الشركات (كما ورد بمراجع تاريخية هامة).
انتقلت بورصة القاهرة بعد ذلك إلى مقر جديد بشارع سليمان باشا (مقر البنك الوطنى للتنمية حاليا) وذلك فى العام 1907 بعد زيادة التعاملات بصورة ملحوظة، وارتفاع عدد السماسرة من 22 سمسارا إلى 73 سمسارا. حيث قام المهندس المعمارى الفرنسى «راؤول براندون» بتصميم أول قاعة تداول لبورصة القاهرة فى إبريل عام 1907. إلا أن عام 1907 قد شهد انهيارا فى سوق الأوراق المالية نتيجة للانخفاض الحاد فى أسعار القطن وانهيار المؤسسات المصرفية والعقارية وأغلق بنك الخصم والتوفير الإيطالى أبوابه فى يوليو من ذلك العام، وقد قدر انخفاض رءوس الأموال من أراضٍ وأوراق مالية بنحو 70% (انظر كتاب البنك الأهلى 1898ــ 1948).
ومع تزايد العمليات فى بورصتى القاهرة والإسكندرية، أصدرت الحكومة المصرية أول لائحة عمومية للبورصات عام 1909 بمقتضى أمر عالٍ خديوى ثم عدلتها بأمر عالٍ فى سنة 1910 وبآخر 1912. وفى عام 1928 انتقلت بورصة القاهرة إلى مقر شارع «الشريفين» الذى تشغله حاليا، وقد كان هذا المبنى ملكا للسيد «موسى قطاوى». وقد حضر افتتاح البورصة لفيف من رجال الدولة والأعمال آنذاك وعلى رأسهم الاقتصادى الكبير «طلعت حرب» باشا مؤسس بنك مصر، وألقى وزير المالية كلمة «النحاس» باشا رئيس الوزراء.
وفى عام 1931 اشتركت كل من لجنة بورصة الأوراق المالية بالقاهرة ونظيرتها بالإسكندرية فى وضع مشروع لائحة عامة جديدة للبورصات، بناء على اقتراح مندوب الحكومة فى لجنة البورصة. ثم صدرت لائحة جديدة للبورصة باللغة الفرنسية بمرسوم يلغى الأمر العالى الصادر فى 1909 ويتميز المرسوم المذكور بالفصل بين تنظيمى بورصة الأوراق المالية وبورصة البضائع عام 1933. هذا وقد شهد عام 1940 تعديل لائحة البورصة بما يناسب تطور العمل فى البورصات العالمية بقرار من وزير المالية. والذى عدل بدوره عام 1947 بما يقضى بتنظيم إنشاء جدول أسعار غير رسمى إلى جانب الجدول الرسمى لتقيد به الأوراق المالية غير المستوفاة للشروط المنصوص عليها فى لائحة البورصات. ونتيجة لذلك انقسمت سوق الأوراق المالية إلى سوقين إحداهما رسمية (داخل المقصورة) والأخرى غير رسمية (خارج المقصورة).
• • •
وفى عام 1953 قام اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس قيادة الثورة بزيارة تاريخية للبورصة فى مبناها الحالى، وكان رئيس البورصة آنذاك هو السيد «إميل ليفى». وقد صدر فى هذا العام القانون رقم 326 لسنة 1953 بشأن التعامل فى الأوراق المالية، وهو قانون مكمل لمرسوم عام 1933 من حيث تنظيم التعامل. ويحظر هذا القانون التعامل فى الأوراق المالية إلا عن طريق السماسرة المقيدين فى البورصة. وقد كانت ثمة محاولات لإعادة تنظيم الشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم وذلك من خلال إصدار القانون رقم 26 لسنة 1954 حيث كان يحكم عمل هذه الشركات مجموعة متناثرة من التشريعات والقرارات. وفى عام 1957 صدرت اللائحة العامة لبورصات الأوراق المالية بموجب القانون رقم 161 لسنة 1957 حيث كان العمل بالبورصات خاضعا للائحة عام 1933 حتى هذا التاريخ. هذا وقد انتعشت حركة التداول فى البورصة وبلغت القيمة السوقية للأوراق المتداولة فيها 66.7 مليون جنيه مصرى عام 1958.
وفى عام 1959 أخذ نشاط سوقى الإصدار والتداول فى التراجع، وواجهت كل من الملكية الفردية والمبادرة العديد من القوانين والقرارات والإجراءات التى كان من شأنها اتساع ملكية الدولة على حساب ملكية الفرد، وقد صدر القانون رقم 7 لسنة 1959 بعدم جواز زيادة ما يصرف للمساهمين من أرباح أية شركة فى أى عام عن المبالغ التى وزعت بالفعل عام 1958 مضافا إليها 10% على الأكثر، أما الشركات التى تنشأ بعد هذا القانون أو التى تتجاوز أرباحها الموزعة خلال عام 1959 نسبة 15% من القيمة الاسمية للأسهم، فيسمح لها بتوزيع أرباح لا تتعدى 10% من هذه القيمة!. الأمر الذى ترتب عليه تقلص سوق الإصدار وتجمدها وانكماش سوق التداول، إلا أن البورصة لم تغلق أبوابها تماما. وشهد عام 1960 انخفاض حجم التداول فى البورصة ليسجل 63 مليون جنيه مقارنة بـ 72.3 مليون جنيه فى عام 1959.
وفى يوليو من عام 1961 صدر القانون رقم 116 والذى أغلقت البورصة بموجبه لمدة شهرين، حيث واكب صدور هذا القانون صدور قوانين التأميم (117،118، و119 لسنة 1961). وقد أدى ذلك إلى تحول جوهرى فى هيكل ونمط الملكية، تجمد معه سوق الإصدار ولم يتبق من الشركات المساهمة التى كانت قائمة قبيل التأميم والتى بلغ عددها 650 شركة مساهمة إلا 36 فقط وصل عددهم 40 شركة طوال عشر سنوات امتدت من 1961 إلى 1971. وبعد إعادة فتح سوقى الإصدار والتداول فى21/9/1961 أى بعد انقضاء مدة الشهرين التى نص عليها القانون لم يتخط حجم التعامل على أوراق الشركات 3.6 مليون جنيه بالقيمة الاسمية و2.6 مليون جنيه بالقيمة السوقية وذلك خلال الفترة المتبقية من عام 1961. واستتبع ذلك صدور القانون 73 لسنة 1963 وقوانين أخرى مشابهة تقضى بتأميم بقية الشركات الهامة. عندها فقط سكنت ولفترة طويلة أجراس بورصتى القاهرة والإسكندرية اللتين كانتا يوما ما ضمن أنشط خمس بورصات فى العالم.