التوسّع الكبير فى حجم النشاط التسويقى للجمعيات والمؤسسات الخيرية الخاصة فى السنوات الأخيرة ربما لا يصب فى مصلحة بقاء تلك الكيانات الخاضعة لذات النمط من الإدارة والحوكمة، خاصة فيما يتعلق بالأمور المالية. احتلال مساحات كبيرة من هواء الفضائيات وإعلانات الشوارع لصالح جمع التبرعات لتمويل أنشطة تلك الجمعيات والمؤسسات لفت الانتباه إلى حجم الأموال الضخمة التى تجمعها، كما أن عقود الإعلانات مع القنوات الفضائية وما تضمنته من حصول تلك القنوات على نسبة من التبرعات ــ وفقا لتحقيق هام أجراه أحد المواقع الصحفية الشهيرة ــ أثارت الكثير من علامات الاستفهام فيما يتعلق بكيفية إحكام الرقابة المالية على تلك الكيانات الخيرية، والخطوات المتبعة من قبل مجالس أمنائها لاتخاذ قرار مالى هام قد يتصل بمئات الملايين فى حملة إعلانية واحدة! كذلك هناك قرارات متعلقة برواتب العاملين فى تلك المؤسسات، والحرص على ألا يطغى بند «العاملين عليها» على سائر أوجه إنفاق التبرعات، على اعتبار أنها كثيرا ما تجمع تحت مظلة مصارف زكاة المال المختلفة بفتاوى رسمية تجيز لتلك الكيانات جمع الزكوات.
***
الإدارة الجيدة المزعومة لبعض المؤسسات الخيرية يجب ألا تصرفنا عن حقيقة الوضع المالى لها، لأننا عادة ما نغفل الفرصة البديلة، أى ماذا لو تم إحكام الرقابة على تلك المؤسسات بصورة نزيهة بعيدا عن الإرث البالى للرقيب المانع؟ بالتأكيد ستكون العوائد الخيرية أكبر، وسيتم توزيع التبرعات بصورة أكفأ من أجل تحقيق أهداف الجمعية أو المؤسسة الخاصة فضلا عن اتساقها مع أهداف وأولويات المجتمع. الرقابة الشكلية من قبل وزارة التضامن أو الرقابة الفنية من قبل وزارات خدمية مثل وزارة الصحة لا تفى بالغرض، كذلك لا يمكن الاكتفاء بتعيين مجلس للأمناء يتخذ جميع القرارات المالية للمؤسسة بعيدا عن أعين أى رقيب مالى أو حتى إفصاح مجتمعى واف.
هلاّ نشرت المؤسسات العلاجية الخيرية تكلفة إعلاناتها فى شهر رمضان وحده وأتاحته لجمهور مموليها المتبرعين، أو أفصحت عن رواتب ومكافآت الأطباء والإداريين بنزاهة تامة، ثم تركت للمتبرّع كامل الحرية فى توجيه تبرعاته وصدقاته كيفما شاء؟! يجب أن نعرف بشكل واضح نسبة ما يخصص إلى النشاط الذى تم جمع التبرعات باسمه إلى سائر أوجه الإنفاق الأخرى من رواتب ودعاية وتسويق وغيرها.. المسألة فى هذا الأمر لا تخضع لحسبة التكلفة والعائد فقط لأن فيها جانبا إنسانيا يجب ألا نغفله، وهذا الجانب يرتبط بمصداقية جامع التبرع ونزاهته وزهده فيما يجمع.
لا يكفى أن تزعم أن إنفاق جنيه على الإعلان قد أتى إليك بعشرة جنيهات من التبرعات فتحقق بذلك جدوى اقتصادية معتبرة! لأنك بهذا الإعلان تزاحم أنشطة أخرى لا تملك ثمن الإعلان، وهى بعد فى حاجة ماسة إلى كل قرش ينفق على الإعلان يمكنها أن تخصصه لإنقاذ إنسان من الموت أو الفقر. الجدوى الاجتماعية والإنسانية هنا أهم، والتخصيص الأمثل لتلك الأموال ينظر إليه فى إطار صورة شاملة لبدائل الإنفاق الخيرى التى يجب ألا تكون الغلبة فيها لصاحب الإنفاق التسويقى الأكبر! إذن قد تتعارض الجدوى الاقتصادية التى يتشدق بها البعض فى طاقم إدارة تلك المؤسسات مع الجدوى الاجتماعية الشاملة، ومع العائد الإنسانى الأكبر، ومع التخصيص الأمثل للموارد الشحيحة على مصارف الخير الأكثر حاجة.
الدفع بأن استدامة تلك المؤسسات يتطلب مزيدا من الإنفاق على الرواتب التنافسية والدعاية والتسويق فى حسبة اقتصادية خالصة هو دفع مغلوط ينظر إلى المؤسسة جامعة التبرعات باعتبارها الكائن الوحيد فى المجتمع، ويغفل أثر المزاحمة الكبير الذى تمارسه ضغطا على الكيانات الخيرية الأصغر، ويغفل العائد الكلى على المجتمع. جنيه واحد فى هذا الكيان الضخم قد يذهب عشرة قروش منه فقط لصالح المريض وعلاجه أو لصالح الفقير وسد حاجته، بينما تسعون قرشا تنفق عن آخرها فى رواتب وأجور وديكور وإعلانات وحفلات.. فضلا عن استخدام بعض تلك المؤسسات للمرضى كأدوات للعرض لجذب الأموال بعيدا عن الحالة النفسية للمريض! الجنيه ذاته يمكن أن يوجّه إلى جمعيات أصغر، فيذهب 70% منه لصالح المريض والفقير..
هنا على المتبرّع أو المتصدّق أن يقرر أين يضع أمواله فى ظل معلومات كاملة، وعلى الجهات الرقابية أن تتدخّل فى مسألة الرقابة المالية بشكل فعّال، وأن تضع قواعد وأسس لحوكمة الصناديق والمؤسسات الخيرية بكفاءة عالية، وهو ما أعتقد قد ذهب إليه رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية منذ أشهر، لكن الدعوة إلى إعفاء تلك المؤسسات جميعا من الضرائب لا يمكن أن تجاز بغير التحقق من عدم استهدافها للربح فعلا لا قولا ودعاية.
***
الرقابة على أداء تلك الكيانات (خاصة الأداء المالى) وحوكمتها وفقا لقواعد صارمة أصبح أكثر أهمية بعد أن بلغ حجم التبرعات الخيرية فى العالم ما يقدّر بنحو 625 مليار دولار سنويا عام 2015، وبعد أن بلغ تقدير الإنفاق السنوى الخيرى فى مصر ما يقترب من 50 مليار جنيها تمثل نحو 2.5% من حجم ودائع البنوك التى حال عليها الحول، علما بأن غياب الشفافية والحوكمة كان سببا فى عدم دقة التقديرات وأن هذا التقدير يتوسّع فى اعتبار كل ودائع البنوك تخرج زكاة المال حتى ودائع غير المسلمين، لكنه يتحفّظ فى اعتبار أن الزكاة تخرج على أموال البنوك فقط وأن الناس لا يتصدقون بما هو أكبر من قيمة الزكاة المفروضة.
وعلى الرغم من اختلاف التقديرات ومنهجيات التقدير فإنه لا يمكن أن نتصور أن التحويلات الخيرية فى مصر تقل سنويا عن حسبة المليارات لا الملايين، تهافت شركات الدعاية والإعلان على تلك الأنشطة خير دليل، وأسعار الهواء معروفة للجميع فقد وصل سعر الباقة الإعلانية الواحدة فى إحدى القنوات الفضائية نحو 11 مليون جنيها مصريا مساحة الإعلان الواحد 30 ثانية فقط (وفقا لتحقيق نشرته هافينجتون بوست عربي).
هذه المليارات تمارس دورا اجتماعيا مهما مكملا لدور الدولة، كما تلعب أيضا دورا مهما فى التأثير على القرار السياسى، الأمر الذى قد تتحوّل معه بعض تلك المؤسسات إلى مراكز قوى فعلية مؤثرة على صانع القرار وعلى أسلوب إدارته للدولة، كما يمكن أن يتم توظيفها سياسيا لخدمة أغراض بعيدة تماما عن دورها المجتمعى.
لا أهدف إلى التشكيك فى مؤسسات العمل الخيرى أو فى مصارفها، لكنّ الرقابة الفعلية على أنشطتها والإفصاح التام عن حجم التبرعات وأوجه الإنفاق ونسب التخصيص أهم للمتبرّع من صور نجوم المجتمع وهى تدعم النشاط، الثقة لا تبنى فقط على النوايا الحسنة ولكن الله تعالى قال فى كتابه العزيز: «وليكتب بينكم كاتب بالعدل» هذا لضمان قضاء دين البشر، ودين الله أحق أن يقضى.