سنوات من الحرب والصراع والعقوبات الدولية منذ اندلاع أحداث الربيع العربى عام 2011، ضاعفت من معاناة الشعب السورى، وكبّدته خسائر فادحة فى الأرواح قدّرت بمئات الآلاف، فضلا عن نزوح الملايين إلى دول الجوار، وتدمير وتعطّل البنى والخدمات الأساسية، مثل التعليم والرعاية الصحية والمياه والصرف الصحى. قبل التطور الأخير فى الوضع السياسى والأمنى على الأراضى السورية، على أثر تقدم قوات المعارضة السورية المسلحة، وانسحاب واسع للجيش السورى أمام هجمات تلك القوات، كان الاقتصاد السورى مستمرًا فى التدهور بمعدلات مخيفة. فخلال عام 2023 وحده بلغ معدل التضخم فى سوريا 137%، مما عكس ارتفاعا مربكا فى أسعار الضروريات اليومية للمواطنين، بما فى ذلك منتجات الغذاء، الأمر الذى أثّر ليس فقط على نوعية حياة الناس واستقرارهم الاجتماعى، بل وأيضا على صحتهم البدنية والنفسية.
الشتاء الذى بات يطرق الأبواب بعنف، داهم السكان فى غيبة شبه تامة لوقود التدفئة، لذا رصدت بعض المواقع المتخصصة قيام المواطنين بحرق البلاستيك والملابس وكل ما يمكنهم العثور عليه للاحتماء من البرد. كما تسبب الارتفاع الكبير فى أسعار الغذاء (الشحيح) فى تقليص عدد الوجبات لتصبح وجبة واحدة يوميا! أما أسعار الدواء فليست استثناء من ذلك التضخم الشرس، الأمر الذى ينذر بمخاطر صحية يصعب التكهّن بتبعاتها. وتقول: «شارلوت سلينتى» الأمين العام لمركز اللاجئين الدنماركى: «إن التشرد والفقر واضحان فى شوارع سوريا، حيث فقد الناس وظائفهم ودخولهم ومنازلهم بسبب الأزمة الاقتصادية». وتذكر فى شهادتها أيضا: «إن يأس الناس واضح فى كل مكان، فقد ارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون فى الشوارع بشكل كبير؛ وتبيع النساء والأطفال النفايات البلاستيكية والخردة المعدنية؛ وتنتشر الأمراض التى يمكن علاجها فى الأوضاع الطبيعية؛ ويتجوّل الأطفال غير المصحوبين بذويهم فى المدن، ويأكلون أى شىء يمكنهم العثور عليه فى حاويات القمامة.. هذه هى النتيجة المباشرة للأزمة المستمرة منذ فترة طويلة» انتهى الاقتباس.
وبحسب منظمة الأمم المتحدة، فإن نحو 16,7 مليون شخص فى سوريا فى حاجة إلى مساعدات إنسانية فى عام 2024، صعودا من 15,3 مليونا فى عام 2023. ومن بين هؤلاء المحتاجين هناك 5,5 ملايين نازح، بما فى ذلك أكثر من 2 مليون شخص يعيشون فى ملاذات. تذكر المنظمة الأممية أن نحو 12,9 مليون شخص فى جميع أنحاء سوريا بحاجة إلى مساعدات غذائية. الكوارث البشرية ليست العدو الوحيد للشعب السوري، فبعد ما يقرب من 12 عاما من الصراع والأزمات الاقتصادية المستمرة، ضربت سوريا سلسلة من الزلازل (شمال سوريا وتركيا) فى 6 و20 فبراير 2023. وقد تدهورت الأوضاع الاقتصادية بشكل أعمق بعد الزلزال، مع ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة وارتفاع أسعار السلع الأساسية، مما أدى بدوره إلى زيادة الفقر والاعتماد على المساعدات.
كما أعاق الركود الاقتصادى الوصول إلى الخدمات المحدودة بالفعل، وزاد من تكلفة الاستجابات الإنسانية للكوارث. وبحلول الربع الأخير من عام 2023، تضاعفت تكلفة سلة الغذاء مقارنة بشهر يناير من العام نفسه، وتضاعفت أربع مرات فى عامين. بالإضافة إلى ذلك، تصاعدت الأعمال العدائية فى شمال سوريا ومحافظة دير الزور فى أواخر عام 2023، مما أدى إلى نزوح أكثر من 120 ألف شخص. كما أدت الهجمات المنتظمة على مرافق المياه والكهرباء فى شمال شرق سوريا إلى تعطيل الخدمات الأساسية. ومن المتوقع أن يتسبب تطوّر الصراع خلال الفترة القادمة إلى مزيد من تردّى الأوضاع الإنسانية، بالإضافة إلى مخاطر تتفاقم حالات تفشى الكوليرا المستمرة بسبب نقص المياه، مع شبه انعدام تام للأمن الغذائى.
• • •
الوضع الاقتصادى والإنسانى المتدهور فى سوريا وضع أطراف النزاع الدوليين أمام مأزق خطير، إذ أنه لا يمكن الاستمرار فى فرض العقوبات على النظام السورى، كما أنه ليس من السهل اتخاذ قرار بتخفيف العقوبات وتطبيع التجارة مع هذا النظام، حتى لا يعزز ذلك من قوة دمشق (وربما إيران وحزب الله) ويقوّض عملية السلام من وجهة نظر الأطراف المعادية لنظام بشار الأسد ومسانديه. لذا فربما كان الاقتصاد وحده القادر على تفسير هذا الموقف السلبى لموسكو من الهجمات الأخيرة لقوات المعارضة السورية المسلّحة على الجيش السوري، إذ باتت تكلفة مساندة النظام الحاكم (الاقتصادية والإنسانية) أكبر من أن تتحمّلها روسيا، فى ظل إعادة ترتيب مراكز القوى فى المنطقة فى ضوء هزائم الأذرع الإيرانية المتتالية، وعودة «ترامب» ــ المتوعد لإيران ــ إلى البيت الأبيض.
قبل التصعيد الأخير، كانت الولايات المتحدة تشجع التنمية فى شمال شرق سوريا، ولكنها تتردد فى الشمال الغربى، بينما تعزز تركيا النمو فى المناطق الخاضعة لنفوذها، ولكنها تعارض التطبيع مع شمال شرق سوريا. وفى الوقت نفسه، تصالحت روسيا وإيران والصين وبعض وكالات الأمم المتحدة والجهات الفاعلة الإقليمية مع دمشق، ودفعت باتجاه إعادة الإعمار المركزى تحت إشراف النظام السورى الحاكم، معتبرة هذا النظام قوة موحدة ضرورية للحفاظ على سلامة الأراضى. كان هذا الوضع المعقّد وحده كفيلاً بخلق إطار مجزأ للتعافى الاقتصادى، يفتقر إلى التماسك والاستدامة، وتغيب معه الفرص الجادة لإعادة بناء سوريا الموحّدة.
طوال سنوات الصراع تميزت الأنشطة القائمة على الإنتاج بمرونتها النسبية وتأثرها الأقل باقتصاد الحرب، بينما هيّمن أمراء الحرب ورجال الأعمال على قطاعات التجارة والخدمات والعقارات. فقد استفاد الإنتاج الزراعى والصناعى فى سوريا تاريخيا من تدخل الدولة وحمايتها، فى شكل إعانات وتشريعات ضريبية وجمركية مشجّعة، كما خضعت سياسات الحكومة السورية لتغييرات جوهرية فى العقد السابق على تفجّر الصراع، مع تحوّل واضح نحو تحرير الأسواق وتسليم الزمام للقطاع الخاص.
يمكن القول أن النشاط الإنتاجى فى سوريا قد تطوّر بفضل إنتاج واستثمار الشركات الصغيرة والمتوسطة، التى أفرزت مع الوقت ما يمكن اعتباره مجتمع أعمال «مستقل». منذ عام 2020، بدأ القطاع الخاص المحلى فى شمال غرب سوريا فى الاستثمار فى الأنشطة القائمة على الإنتاج، وإنشاء مناطق صناعية جديدة، وتعاونيات زراعية، وآلاف الورش. وبالتالي، راهنت الوكالات الداعمة على ضرورة دعم القطاع الخاص من القاعدة إلى القمة، وتقديم المساعدة على مستوى السياسات، للتعامل مع تحديات الوصول إلى التمويل والأسواق والعمالة.
غير أنه لا يمكن لأى نشاط إنتاجى مستدام أن يزدهر بدون عمالة ماهرة، وتواجه سوريا تحديات مركبة فى هذا الباب. فقد هاجر العديد من العمال المهرة، وستتطلب عودتهم أو إعادة توطينهم فى سوريا استقرارا أمنيا وحوافز مالية، وإسكانًا، وحدًا أدنى من الخدمات الاجتماعية. وعلاوة على ذلك، انقطع التدريب المهنى أثناء الصراع، أو تم تقديمه بمستوى منخفض من المهارة. وتفتقر المناطق التى تسيطر عليها المعارضة إلى المرافق التعليمية المؤسسية اللازمة لتدريب الجيل القادم من العمالة الماهرة تقنيا، والتى تتطلبها صناعات الإنتاج للتغلب على هذه التحديات وتوسيع نطاق الإنتاج بشكل فعال.
• • •
إن التحديات التى تواجه التعافى الاقتصادى قبل التسوية السياسية فى سوريا متعددة ومعقدة، فقد يؤدى بدء التعافى الاقتصادى قبل الأوان إلى ترسيخ استقلال مناطق النفوذ والسيطرة المختلفة، مما قد يجعل من الصعب إعادة توحيد البلاد. وقد عانت البنية الأساسية فى شمال غرب سوريا تاريخيًا من التردّى قبل اندلاع الصراع وبالطبع قبل تطوراته الأخيرة، لكن النزاعات المسلّحة أدت إلى مزيد من التردّى، حيث تم تدمير الأصول الحيوية مثل مرافق إنتاج النفط ومحطات توليد الكهرباء وصوامع الاحتياطيات الزراعية الاستراتيجية.
كذلك تجدر الإشارة إلى إن التجارة الداخلية فى سوريا، والتى تتم بين الأطراف المتنازعة، تحتّمها الضرورة وليس الكفاءة، وغالبًا ما تنطوى على عمليات التهريب، وتكون مثقلة بالضرائب والرسوم المرتفعة، وتحمل مخاطر كبيرة، وتقع عادة تحت سيطرة أمراء الحرب واللصوص. وهذا يجعل بيئة التجارة غير متوقعة وغير آمنة، مما يشكل عائقا كبيرا أمام استقرار ونمو الاقتصاد المحلى. لا أحد يمكنه أن يتكهّن كيف تتصاعد حدة تلك المخاطر فى ظل التطور الأخير على الأرض.